«حكايات قاسية» لدي ليل آدام: جثث رجال الأعمال وأرواحهم
إذا كان النقاد والباحثون قد قارنوا دائماً بين كتابات الفرنسي أ. فيلييه دي ليل آدام من ناحية، وكتابات ادغار آلن بو والرومانسيين الألمان من ناحية ثانية، فإن أياً من الباحثين لم يتمكن من التشديد على ان الأميركيين والألمان يمكن ان يكون بينهم من تمكن من رسم المناخات المقابرية التي عرف الفرنسي كيف يرسمها ولا سيما في مجموعتيه الروائيتين اللتين صدرتا تباعاً في العامين 1883 و1885، وفي عنوان متطابق تقريباً «حكايات قاسية» و«حكايات جديدة قاسية»، ذلك ان الرعب في حكايات دي ليل آدام، لا يأتي من المواقف المتعمّدة او من الخطر الداهم، أو حتى من اي صراع بين الشخصيات.
إن العنف يأتي لديه مباشرة من الجو الذي يرسمه الكاتب، ومن المقارنة المدهشة التي يضعها دائماً بين موتين: موت الجسد وموت الروح، معتبراً ان موت الروح هو الموت الحقيقي. ولعل في المشهد الآسر والمرعب لواحدة من قصصه الأكثر شهرة في مجموعته «حكايات قاسية جديدة» ما يشرح ذلك بوضوح: ففي هذه القصة يرسم الكاتب مقارنة بين مجموعة من الجثث موجودة في المشرحة، وبين مجموعة من رجال الأعمال الأحياء الجالسين في مقهى. وهو سرعان ما يجعلنا ندرك ان القاسم المشترك بين المجموعتين يكمن في ان رجال الأعمال مثلهم مثل الجثث الساجية في المشرحة جامدون في اماكنهم من دون حراك. وبعد هذا، وعلى سبيل الاستنتاج يقول لنا دي ليل آدام ما معناه انه اذا كان اصحاب جثث المشرحة «قد ماتت اجسادهم بفعل اغتيالهم الذاتي لها آملين ان يتمكنوا من الحصول على شيء من راحة البال مقابل ذلك الموت الطوعي»، فإن رجال الأعمال في المقهى، اذ يقبعون جامدين على ذلك النحو يتأملون تأمل الموتى من دون ان يبدو ان ثمة شيئاً حقيقياً يثير حقاً اهتمامهم وتأملهم «انما اغتالوا ارواحهم، من دون اجسادهم وهم أيضاً بدورهم يأملون في الحصول على شيء من راحة البال». اما استنتاج دي ليل آدام الأساسي فيقول: ان مشهد رجال الأعمال الذين فقدوا أرواحهم أشد كآبة ومدعاة للحزن والشفقة من منظر اصحاب الجثث، الذين فقدوا اجسادهم وحسب.
والحال ان الموت الذي يشكل خلفية المشهد في هذه الحكاية، بل يشكل حتى مبرر وجودها الأساسي، يبدو حاضراً على الدوام في كل ما كتبه دي ليل آدام من حكايات، وحتى في أشعاره وفي بقية نصوصه. ذلك ان الرجل عاش دائماً وهاجس الموت يقلقه، يستبد به ويتآكله. وقد عزز من وضعيته تلك انه احس دائماً، في القرن التاسع عشر الذي عاش فيه، ان احداً لا يفهمه وأنه انما كمن يكتب في فراغ ويعيش في فراغ. والى هذا، فإننا إن تصفحنا سيرة حياته فسنجده يكنّ دائماً مقداراً كبيراً من الاحتقار ازاء معاصريه، هو الذي آلى على نفسه دائماً ألا يكتب ابداً لكي يقرأه جمهور تافه يجب ألا يفهم شيئاً عن معاني ما يقول. وحسبنا ان نقرأ الحكاية التي اشرنا اليها هنا، بل حتى كل حكايات المجموعتين حتى ندرك كمّ الاحتقار - والافتتان بما هو خارج كل سائد، بما في ذلك الموت - في كتابات هذا الرجل، إزاء أبناء زمنه. ومن الواضح ان هذا الكمّ هو الذي قاده الى فتح حوار متواصل ومقابري - وغير ذي جدوى في نهاية الأمر - مع العوالم الأخرى، مع الموتى، مع القوى الخفية، حيث ان نصوصه تعتبر حواراً دائماً مع كل ما يمت الى البشرية الحية بصلة.
إن الشخصيات التي تملأ حكايات دي ليل آدام، وتقوم بأدوار «البطولة» تعيش - وفق ما يفسر دارسو اعمال الرجل - في مناخ بالغ الغرابة، غالباً ما يكون مرتبطاً بالموت، وإن كنا سنلاحظ بسرعة ان الحلم يشكل في تلك الكتابات عنصراً اساسياً. كما ان الحلم يأتي مع ضروب التواصل - «البديهي»، اي الذي لا يقبل اي دحض او التباس لدى الكاتب - مع العوالم الاخرى، مع الافتتان بالموت، في امتزاج مدهش مع الحياة، ما يعطي هذه الحياة في نهاية الأمر مذاقاً غير مذاقها المعهود، بل نكاد نقول: مذاقاً ينقض كلياً مذاقها المعهود.
فمثلاً في القصة الأولى، في مجموعة «حكايات قاسية» وعنوانها «فيرا» لدينا «بطلة» الحكاية فيرا نفسها التي تعيش أحلامها في شكل يجعل هذه الأحلام اشد واقعية من الواقع نفسه. ذلك ان فيرا تواصل العيش مرتبطة بذكريات حبيبها الذي قضى ميتاً، حتى اليوم الذي يراها فيه هذا الأخير ميتة في... حلمه. وفي قصة عنوانها «كلير لينوار» لدينا ظل لينوار الذي تقمص في شخص آخر حتى يحضر ويقطع رأس السير هنري كليفتون عشيق زوجته. وفي قصة اخرى تالية تطالعنا مجموعة من الاشعاعات الضوئية التي تقترح علينا ان ثمة روابط سرية غامضة بين الأرض وعالم الأعالي... وهو ما يبرهن عليه دي ليل آدام في حكاية اخرى تتحدث عما يسمّى «الإنذار» الذي يصل الى البارون كزافييه في كابوس يلح عليه، محدّثاً إياه عن الموت القريب لصديقه الأب موكومب. وفي حكاية عنوانها «ضيف الأعياد الصاخبة» يطالعنا سيد قصر سادي لا يجد متعته إلا في الحلول مكان الجلاد الذي يكلفه هو قطع رؤوس الناس الذين يحكم عليهم بأن تقطع رؤوسهم...
ان تأثير ادغار آلن بو واضح تماماً في كل هذه الحكايات، ولكن من الواضح ان دي ليل آدام يتجاوز ذلك التأثير. وهو ما يؤكده في حكايات المجموعة الثانية، التي - بعد خمس سنوات من اصداره المجموعة الأولى - اصدرها كنوع من التحدي وهو لا يتوقع لها من النجاح ما يفوق ذاك الذي حققته الأولى... التي لم تكن حققت اي نجاح يذكر على اية حال. ذلك ان اجواءها المقابرية وسوداويتها وقسوة اشخاصها ردعت القراء يومها ردعاً حقيقياً. ولنذكر هنا في هذا السياق ان دي ليل آدام عاد وكرر المحاولة مرتين بعد ذلك، ودائماً في حكايات مشابهة تزداد سوداوية وسخرية وقطعاً مع القراء المعاصرين اكثر وأكثر، اذ اصدر في العام نفسه الذي صدرت «حكايات قاسية جديدة» (اي المجموعة الثانية) مجموعة في عنوان «حكايات فريدة» ثم أصدر في العام 1886 مجموعة مختصرة تحت عنوان «الحب الأسمى». ولعل من المفيد ان نلاحظ هنا ان دي ليل آدام حين تحدث عن الحب أخيراً في مجموعته هذه، وصل الى نوع من الصفاء في تصوره للحب لم يكن لنا ان نتخيل وجوده عنده من قبل.
ودي ليل آدام الذي رحل عن عالمنا في العام 1889، أي بعد سنوات قليلة من اكتمال عقد مجموعاته الحكائية الأربع التي أشرنا اليها هاهنا، كان طوال عمره يشعر ان القدر نفسه يتلاعب به، ولا سيما خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته حين اقعده المرض. فما كان منه إلا ان ردّ بالزواج من خادمته التي كانت تفانت في خدمته وأنجبت له ابناً من دون ان تنتظر على كل ذلك اجراً أو شكراً. والكاتب كان ولد قبل ذلك بواحد وخمسين عاماً، أي في العام 1838، لأسرة ثرية نبيلة، حدث ان بذّر أبوه ثروتها، ما جعله على رغم نبله يعيش في فقر مدقع، من المؤكد انه هو ما جعله يعيش كل مرارته وسوداويته وإيمانه بلا جدوى أي مسعى، وتعبيره عن ذلك في شكل مستديم. وهو بدأ مساره الأدبي في العام 1867 بنشر قصصه في الكثير من المجلات. وظل ذلك هو دأبه حتى أيامه الأخيرة، حتى وإن كانت حكاياته - خلال حياته - عجزت عن ان تجد لها قراء يكفون لصنع المجد الادبي الذي تأخر، لكنه عاد وأحاط بالكاتب... بعد سنوات من موته حين بدأ النقاد الجادون يلتفتون الى اعماله ويرون فيها ابعد قليلاً مما كان يراه السابقون.
المصدر: الحياة