في يوم المسرح العالمي: حيّ على الجمهور!

في يوم المسرح العالمي: حيّ على الجمهور!

في عام 1996 كُلف المسرحي السوري سعد الله ونوّس من قبل المعهد الدولي للمسرح، التابع لليونسكو، بكتابة رسالة يوم المسرح العالمي. وهو تقليد يحمل رمزية عالية للمسرحيين في كل بلدان العالم، لأن الرسالة التي تُكتب في هذا اليوم تُقرأ بكل اللغات، وعلى كل المسارح في مختلف بقاع العالم. ويكاد اليوم لا يبقى من ذكرى تلك الرسالة القيّمة التي كتبها ونوّس سوى عبارة: «إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ»، وهي العبارة التي يرددها الكثيرون دون معرفة السّياق الذي قيلت فيه.

رسالة يتردد صداها إلى اليوم

للمفارقة، في السطر الذي يلي العبارة الشهيرة تلك، يشير ونوس بيأس لمعركته التي دامت قرابة أربع سنوات مع مرض السرطان، ويتحدث أيضاً عن الحزن والانزعاج الذي يتركه فيه سؤاله عن أسباب إصراره على استمرار الكتابة للمسرح، وهو الفن المُهدد بالزوال. ولذلك نفهم أن عبارة ونوس المُلهمة والمشحونة بطاقة الأمل بغدٍ أفضل قيلت من كاتبها في أسوأ وقت على الصعيد المهني والصحي والشخصي، وأيضاً على صعيد عالمي ودولي. فالعالم كما رآه ونوس في تلك اللحظة بدا محاصراً بوحش العولمة، وما تحمله في العُمق من تهديد للثقافة، وتمركزٍ في الثروات التي تقلص الدّعم للفنون بدلاً من أن تزيدها. وفي رسالته تلك يعيد ونوس ويكرر بأنه يرى في المسرح فعلاً من أفعال المقاومة للظلم الذي يسود العالم، وشكلاً من أشكال الحوار. ويقول في هذا السياق: «أعتقد، أن المسرح، ورغم كل الثورات التكنولوجية، سيظل ذلك المكان النموذجي، الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي معاً». ويكمل بالقول: إن الإنسان في المسرح يكسر مَحارَته ويتأمل حياته ضمن سياق جماعي يوقظ انتماءه إلى الجماعة. هذا ويتحدث ونوس أيضاً عن مستويات متعددة من الحوار تحيط بتجربة المسرح، أهمها: الحوار بين شخصيات العرض المسرحي، والحوار المُضمر بين العرض والمتفرج. والحوار الثالث بين المتفرجين أنفسهم، ومن ثم حوار أخير بين العرض والمدينة الأوسع التي يقدم فيها.

رسالة يوم المسرح لعام 2021

في هذا العام، جاءت رسالة المسرح التي كتبتها الممثلة البريطانية هيلين ميرين، مقتضبة ركزت بمعظمها على تأثيرات وباء كورونا على فنون الأداء عامةً، والمسرح بشكلٍ خاص. تُشير ميرين إلى أن انعدام الأمن كان دائماً شعوراً مرافقاً للمسرحيين الذين اختاروا العمل في المسرح، ولذلك فالوباء من وجهة نظرها تحدٍّ آخر يُضاف إلى التحديات التي اعتادوا على مواجهتها. وتقول هيلين ميرين في ختام رسالتها: «منذ بدء الخلق ونحن البشر نستخدم السرد القصصي كشكل من أشكال التواصل بيننا، ولذلك فإن ثقافة المسرح الجميلة ستبقى طالما بقينا نحن هنا. ولن تختنق أبداً الرغبة الإبداعية للكتاب والمصممين والراقصين والمغنين والممثلين والموسيقيين والمخرجين، وفي المستقبل القريب ستزهر تلك الرغبة مرة أخرى، تدفعها طاقة جديدة، وفهم جديد للعالم الذي نتشاركه جميعاً». لكن جرعة التفاؤل التي تحاول ميرين بثها تبدو عاجزة عن أداء مهمتها في عالم مثقلٍ بالمشكلات، التي تتحدى الفن، وتعيد طرح السؤال حول دوره الحقيقي في المجتمع.

متفرج واحد على الأقل!

صاغ أحد الباحثين في مجال فنون الأداء عبارة مكثّفة وذكية تشرح بأحسن صيغة ممكنة الدور الأساسي للجمهور في عملية خلق العمل المسرحي، وتقول العبارة: «يستلزم الأمر متفرّجاً واحداً على الأقل حتى يكتمل الأداء». أي: إن ما يحدث على الخشبة لا يكتمل حقاً دون عين تراه وعقل يفهمه وينقده.
للحقيقة، كان الوباء ربما فرصة قسرية لفهم الدور الذي يلعبه المُتفرج في التجربة المسرحية. ودون قاعات مكتظة بالجمهور الذي يحبس أنفاسه تارةً، ويصفق بحماس تارةً أخرى، بدا المسرح فناً مهدَّداً ومنقوصاً.
من جهته أفرد ونوس مساحة واسعة في أعماله النقدية للحديث عن المتفرج ودوره في العملية المسرحية. فهو قدّم بدايةً تحليلاً ديموغرافياً للفئات التي داومت على حضور العروض المسرحية في سورية، كما طرح آراءً جريئة تنتقد تبني المسرح القومي لمفهوم الخشبة الإيطالية، وما يلحقه من قيود تقونن وتحدد فعل الفرجة. فونوس يرى أن فنون الأداء الشعبية في سورية، كالحكواتي وخيال الظل والعروض الحية التي كانت تقام في الشوارع، أتاحت للجمهور حريةً أكبر بالتفاعل الحي والمشاركة الفعّالة مع العرض الأدائي، بخلاف طقوس المسرح البرجوازي التي قيدت المتفرج وحجّمت دوره.
على عكس المتوقع، لم يرد ونوس من الجمهور أن يتجه للمسرح بحثاً عن التسلية، أو رغبةً بإيجاد متنفس، بل أراد العكس تماماً، وعن هذا يقول: «المسرح الذي نريد ليس المسرح الذي يريح المتفرّج أو يُنفّس عن كربته، بل على العكس، هو المسرح الذي يُقلق ويزيد المتفرّج احتقاناً». ويضيف أيضاً كاتب «طقوس الإشارات والتحولات»: إن المتفرج يجب أن يعي دوره ومسؤوليته في توجيه المسرح، فيقول في هذا الصدد: «ينبغي أيضاً أن تنتهي سلبية المتفرّج ووضعيته الساكنة حيال الخشبة وما يدور عليها. وعلى المتفرّج أن يحس بالمسؤولية وبأن لموقفه من أي عمل ثقافي نتائج هامة عليه، وعلى أوضاع البلاد، بحيث يغيّر قبل كل شيء جلسته المدرسية واستسلامه على الكرسي وقبوله لكل ما يعرض عليه».

معنى الحياة ودور الفن

قد يكون مفهوماً الآن سبب الغضب الذي أصاب ونوس عندما سئل عن أسباب إصراره على الكتابة للمسرح. لأن السؤال المطروح في حينها على رجلٍ مصاب بالسرطان يعيش أشهره الأخيرة، كان في العمق سؤالاً عن معنى الحياة التي عاشها وعن الدور الذي ارتضاه فيها. سعد الله ونوس أفنى حياته «حرفياً» في العمل المسرحي لأنه كان مقتنعاً أن المسرح أداة ثورية، ومؤمناً أننا وإذا ما رأينا حيواتنا مجسدةً أمامنا على خشبة المسرح، سنرغب حقاً بتغيرها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1012
آخر تعديل على الثلاثاء, 06 نيسان/أبريل 2021 20:38