في محاولة لتطويق الغضب.. كلماتٌ باردة في زمن حار

في محاولة لتطويق الغضب.. كلماتٌ باردة في زمن حار

تشبه الكلمات الطريق أحياناً، لأنها في المحصّلة معبرٌ يودي إلى المعنى. أحياناً ما تفضي كلمات مختلفة إلى الغاية ذاتها، لكن هذا لا يعني أنها كلمات متشابهة أو متطابقة، فلكل كلمة شحنتها، ووقعها، ودلالتها، وهذا ما يدركه تمام المعرفة السياسيون، ووسائل الإعلام التي تنطق باسمهم، فتجعلهم يختارون في خطاباتهم كلماتٍ دون غيرها. أما في سورية فالوضع مختلفٌ قليلاً فيما يتعلق باختيار المفردات المناسبة من قبل صُنّاع القرار ووسائل الإعلام التي تدعمهم، إذ يبدو النهج السائد هنا دائماً: «اختيار الطريق الطويل والمتعرّج نحو المعنى».

كلمات باردة في زمن حار

كان الأسبوع المنصرم حافلاً بالمفاجآت غير السارة بالنسبة للسواد الأعظم من السوريين، جاء أبرزها في الارتفاع غير المسبوق في سعر مادة البنزين، وهو الارتفاع الثاني منذ مطلع 2021. وكالعادة هناك عشرات العبارات التي يمكن استخدامها لزفّ خبرٍ مثل هذا، كالقول: «ارتفاع غير مسبوق في سعر البنزين»، أو «قفزة صادمة في سعر مادة البنزين»، أو «بعد موجات متتالية من رفع الأسعار البنزين يرتفع مجدداً». لكن وبدلاً من كل تلك الديباجات، وحّدت وسائل الإعلام الرسمية والصفحات الإعلامية التابعة لها على مواقع التواصل الاجتماعي صيغة الخبر، الذي تحدّث عن تعديل في سعر هذه المادة. ولا داعي للقول هنا: إن كلمة «تعديل»، بما فيها من تحايل ومناورة ومحاولة لامتصاص الغضب، نالت قدراً لا يقل من السخط مقارنة بمضمون الخبر نفسه. لكن يبدو بعد كل اعتبار أن السياسيين ومستشاريهم الإعلاميين كانوا على حق، فكلمة «رفع ومشتقتاها» لم تعد ملائمة للاستخدام بعد الآن.

وفي سياق مشابه، لم يكن مفهوماً البتة صيغة الخبر الذي تداولته مواقع إعلامية سورية قبل أيام، حول النسب المُقلقة لتفشي فايروس كورونا في دمشق، واستجابة المستشفيات والمراكز الصحية لهذه الزيادة. فجاء الخبر على الشكل التالي: «وزارة الصحة: إشغال أسرّة العناية المشددة بمرضى كورونا في مستشفيات دمشق بنسبة 100 بالمئة»، فالكلمات التي تُثير اللبس هنا، وتُخفف من وقع الخبر هي كلمة «إشغال» من جهة، بما فيها من حيادية، ورقم 100% الذي يقترن عادةً بقيم إيجابية من جهة أخرى. مجدداً كان أمام أصحاب القرار والكوادر الإعلامية عشرات الخيارات للتعبير عن ذات الفكرة، منها مثلاً: «لا سرير واحد فارغ في دمشق: انتشار مقلق لفايروس كورونا». لكن وكما يبدو لم يرد أصحاب القرار إقلاق الناس، حتى وإن كان هناك ما يستدعي القلق حقاً.

وبالتالي يمكن استشعار وجود الكثير من التناقض والاستخدام غير المبرر أو المفهوم لكلمات بعينها دون غيرها. كما لو أن أصحاب القرار، أو القائمين على صياغة الأخبار يختارون إخافة الناس مما لا يستدعي الخوف، ويعمدون إلى تهدئتهم حينما يكون هناك ما يستوجب القلق حقاً: «لا تقلق، لا تقلق، هو مجرد تعديلٌ صغير في الأسعار، كما أن المستشفيات بكاملها ممتلئة بالمرضى».

الوقوع في غرام كلمة «إرهاب»

عادة ما تضطلع وكالات الأنباء حول العالم بمهمة تقديم الأخبار «خاماً» قدر الإمكان، لتترك لوسائل الإعلام المختلفة فيما بعد صياغة الأخبار وفق السياسات التحريرية المختلفة لكل وسيلة إعلامية. لكن الأمر في حالة الأخبار الصادرة عن وكالة سانا للأنباء مختلف عن هذا تماماً. فالأخبار تخرج من الوكالة مُثقلة بالكلمات الأدبية والوصفية والتشبيهات التي تشي بالموقف السياسي للوكالة، وتذكّر به في كل سطر. بالتالي يكون على وسائل الإعلام التي ستنقل خبراً من سانا، تقشير متن الخبر من الكلمات الفضفاضة الإضافية، وتعديله ليصبح أكثر مباشرةً ومُلائمة.
فعلى سبيل المثال: تعشق وكالة الأنباء سانا كلمة إرهاب، وتستخدمها بكثافة مُفرطة. بحيث لا يستبعد يوماً أن نرى خبراً على صفحاتها يقول:» تنظيمات إرهابية ترهب الناس وتنهج نهجاً إرهابياً عبر إرهابييها الذين يقومون بأعمال وجرائم إرهابية». فالإرهاب هو المسؤول عن كل شاردة وواردة تحصل في البلاد. لكن وبالطبع هناك أيضاً قائمة عبارات مُفضلة أخرى لدى مراسلي الوكالة نذكر منها: «أفكار رجعية، غايات دنيئة، أسمى آيات المحبة والوفاء، الانعتاق من كابوس الفكر الظلامي، فبركات مزعومة، محاربة المرتزقة».

الإجابة عن سؤال: لماذا يحصل كل هذا؟

في ظل الانحدار السريع للوضع المعيشي في سورية، يستنفر بعض السياسيين السوريين وخبراؤهم الإعلاميون للتصدي لسؤال واحد يتكرر صداه على كامل أراضي الوطن: «لماذا يحصل كل هذا؟» وتأتي الأفكار ذاتها بصيغ وديباجات مختلفة لتقدم إجابةً واحدة؛ «الوضع المعاشي المتدني في سورية اليوم نتاج قانون قيصر والعقوبات الاقتصادية والإرهاب».. فنسمع على سبيل المثال: تصريحات السياسيين السوريين تبرر ارتفاع المحروقات بسلوك الأمريكيين الذي يقرصن ويستهدف الثروة النفطية السورية، ونقرأ عن مناشدات تطالب المجتمع الدولي برفع العقوبات التي «أفقرت الشعب وهددت لقمة عيشه». وعلى الرغم من أن هذه العبارة تشكل جزءاً من الحقيقة، إلّا أنها لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تختصر الحقيقة كاملة، فهناك الكثير الكثير مما لا يقال حول ما يحصل في سورية ويقدم تبريراً للوضع الذي وصلنا إليه. لكن وكما يبدو، تلك كلمات لا تدخل في قاموس مصطلحات أصحاب القرار ووسائل الإعلام، التي لم تعد حتى تشغل بالها بمحاولات ترقيع ما لا يمكن ترقيعه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1010
آخر تعديل على الأحد, 21 آذار/مارس 2021 23:50