تأملّات الهوية المنفردة ضمن الحشد

تأملّات الهوية المنفردة ضمن الحشد

يظنّ الجميع ربّما بأنهم يعرفون أنفسهم تمام المعرفة، وأنهم ألفوا كل انفعالاتهم وردود فعلهم. لكن الحقيقة تختلف قليلاً عن ذلك. هناك وجوه جديدة لهم، قد لا يعرفونها، وتحديداً تلك التي تظهر حينما يكونون ضمن حشد ضخمٍ برفقة أناسٍ آخرين.

من الحشود الصغيرة حتى الكبيرة، تلك التي تبتدئ بجمهرة مجموعة من الناس حول حادثةٍ ما حصلت في الشارع، مروراً بالوقوف ضمن جمهورٍ صاخب في حفل موسيقيّ أو على مقاعد المشجعين في ملعبٍ رياضي، وصولاً إلى الحشد في الوقفات الاحتجاجية والتظاهرات والحركات الشعبية الأخرى. كل تلك تجارب تترك ثقلها على المرء الذي كان في لحظة جزءاً منها. بحيث تحضن ذاكرته، بعد انفصاله عن الحشد، ورجوعه ليكون وحدة منفردة، تفاصيل وانفعالات تم تخزينها، تترك آثارها عليه فترة من الزمن.

«الإنسان كائن اجتماعي» تلك ربما إحدى العبارات التي قيلت حدّ الملل، حتى فقدت معناها من كثرة التكرار. لكن تأمل تجربة الغوص في حشد، والاستسلام ليكون المرء جزءاً من كل، تغري بتأمل معنى هذه العبارة مرة أخرى. هي محاولة لفهم الغواية، والغرابة، والانفعال الذي يصيب المرء ضمن حشد. 

الحشد وغياب الإرادة 

تُكرّس الكثير من الكتابات النقدية والفكرية الاعتقاد بأن الوجود ضمن حشد يعني بالضرورة غياب وانتفاء الإرادة الفردية. ومن ذلك بالطبع تشبيه الحشد بالقطيع، المُسيّر دون إرادة منه إلى مصيرٍ ما. 

يقول نيتشه: «حين يقف مئة شخص بعضهم قرب بعض يفقد كل منهم إدراكه ويحصل على إدراك ما آخر». وغالباً ما تركّز الأدبيات على الجزء الذي سيّفقده المرء من إدراكه الخاص، في حين أن الجزء الثاني من عبارة نيتشه يكمّل المعنى الحقيقي للعبارة، فنيتشه يعترف بوجود إدراك جديد، وإن كان هو نفسه غير قادرٍ على تفتيته وتحليله وفهمه. 

في اللغة العربيّة، يُعرّف الحشد بكونه «جماعة من النَّاس في مكان محدود نسبيّاً». وفي الحقيقة، التقارب الجسدي ضمن حيّز ضيّق شرطٌ أساس كي يكون الحشد حشداً. فهذا الضيق يعزز شعور المرء بوحدة خصائصه الجسمانية مع أبناء جنسه، ويعزز شعوره بالانتماء إليهم. قد يكون من غير المفهوم استيعاب لماذا تم اعتبار التماثل الظاهري، والغياب الجزئي للهوية الفردية أمراً سلبياً إلى تلك الدرجة. كما لو أن البشر، وفي صراعهم لتطوير وعيهم يتخلّون عن جزءٍ أساس من تركيبتهم ككائنات حيّة. لماذا لا تثير فينا صورة سرب منتظم من الطيور أو قطيعٌ من الخيول الأصيلة التي تركض على الشاطئ كل تلك الأحاسيس السلبية بالتبعية وغياب الإرادة؟ في حين أننا على العكس نستسلم لتأمل إيقاع حركتها المتناغم وجمالها المكثّف. أما الجمّاعة البشرية فيتم وسمها بالتخلّف والهيجان والغوغائية. 

ضرب الانفعالات بـ 2 

أشد ما يسترعي التأمل في تجربة الوجود ضمن حشد، ظاهرة تضخّم الانفعالات أياً كانت. فإن كنت تشعر بالحزن قليلاً ستغرق فيه حتى أذنيك ضمن الحشد، وإن كنت متحمساً قليلاً ستنفجر طاقاتك هناك، وتجد نفسك قادراً على القفز والصراخ والغناء والمشي بصورة لم تعهدها في نفسك من قبل. وبصورة مشابهة، يتضخم إحساسك بالغضب ضمن الحشد، لكن هذا الشعور تحديداً لا يتضخّم فقط بصورة كميّة، بل يطرأ عليه شكلٌ من أشكال التبدلّات النوعية من حيث طبيعته ذاتها. 

في كتابه التلاعب بالوعي، يفرد المفكّر السوفيتي سيرجي قره- مورزا مساحة واسعة لفهم بنية الحشد ضمن فصل تحت عنوان الثقافة الشعبية ومؤسساتها. يشير مورزا إلى أن المرء في الحشد يكتسب وعياً لقوةٍ لا تقهر، ويُضيف بأن الحشد يكون أقل ميلاً لكبح غرائزه، لأن الحشد في المحصلة، كيان مجهول لا تقع عليه أية مسؤولية، وهذا ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق فيما يتعلق بديناميكية عمل الحشود. 

المثقّف الفرد في مواجهة الحشد 

من المثير جداً تأمل كم التهديد الذي يشعر به بعض المثقفين إزاء فكرة الحشود. وهو الأمر الذي اختصره الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم بصورةٍ طريفة في قصيدته: (يعيش أهلي بلدي) حينما قال. «يعيش المثقف على مقهى ريش، محفلط مزفلط كتير الكلام، عديم الممارسة عدو الزحام». ورغم أن سنوات طويلة قد مرّت على قصيدة نجم إلى أن نسبة كبيرة من المثقفين لا تزال تتغنى بكونها «خارج الحشد» وفوقه. ما الذي يخيف هؤلاء حقاً في فكرة أن يكونوا جزءاً من كل؟ ولماذا يتم حصر الوجود ضمن حشد بفكرة انتفاء الإرادة بدلاً من أن يكون الحشد نفسه في بعض الأحيان تجسيداً لتلك الإرادة؟ لماذا أيضاً التسليم بفكرة غيّاب القوة أو المقدرة على التأثير ضمن الحشد الأكبر؟ 

من جانب آخر، وبالنسبة للمفكرين أو المشتغلين في المجال الثقافي، تُشكّل تجربة الانخراط في حشد مادة غنيّة لفهم المجتمع، والتعرّف على ما يحرّكه ويثيره، وتأمل الطريقة التي يعبر فيها عن نفسه، على صعيد الأفراد ضمنه، وعلى صعيد الجماعات أيضاً. فالحقيقة أن الانخراط ضمن حشد يُتيح تأمل الجزيئات الصغيرة التي تكوّنه. يجد المرء نفسه مُتنقلاً بين تعابير محددة وحركات جسدية وأفعال صغيرة لأناس حوله تُنسى وتغيب ضمن الصورة الأكبر. هذا ويفطن المرء أيضاً إلى البنية المُركبة لهذه الكتلة البشرية، وكيف أنها لا تتكون فقط من كائنات منفردة، وإنما من جماعات وشلل صغيرة تتحرك وتبدّل مواقعها ضمن الإطار الأكبر للحشد. وبهذا المعنى تكون تجربة الوجود ضمن حشد غنيّة على الصعيدين الفكري والانفعالي. 

في المحصلة، يقول المفكرون: إن للحشد هوية خاصة متفردة، لا تتشكل فقط من حصيلة الهويات المنفردة للأشخاص ضمنه، وهم ربما محقّون في ذلك. لكن هذه الهوية الجديدة ليست بالضرورة نقيضاً للهويات الصغيرة. يحصل أحياناً أن تستمد تلك الهويّات المنفردة قوتها من الحشد الأكبر، ويمتلك الصوت الخفيض زخماً وثباتاً أكبر يجعل صداه يتردد في كل مكان. جرّب فقط أن تصفّق بيديك الاثنتين في غرفةٍ فارغة، ثم جرّب مرةً واحدة أن تصفّق برفقة 500 مئة شخص، هو صوتٌ لن ت

نساه ما حييت.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1000