التطبيع المباشر والتطبيع النائم..

التطبيع المباشر والتطبيع النائم..

يولي الباحثون المهتمّون في علوم الاتصال- التأثيرات غير المباشرة والتراكمية للمضامين الإعلامية- اهتماماً يفوق أحياناً التأثيرات المباشرة والملموسة. رغم أن الأولى يصعب قياسها وحصرها على اعتبار أنها تحصل على امتداد فترة زمنيّة طويلة وبصورة عرضيّة. وهذا ما دفع العلماء والباحثين لتسمية هذا النوع من التأثير بـ «التأثير النائم»، لأنه يتسلل ويحصل دون أن يشعر به المرء حقاً، ودون أن يفطن أساساً لأن تغيّراً ما قد حدث. يساق هذا الكلام للحديث عن الجهود الإعلامية والثقافية، المباشرة والنائمة، لتقبّل الكيان الصهيوني، من قبل الجمهور العربي.

أفيخاي أدرعي 

منذ 2006، ظهر أفيخاي أدرعي كوجه معروف في الساحة العربية، بعد أن شغل منصب الناطق بما يعرف باسم (جيش الدفاع «الإسرائيلي») في الإعلام العربي. تردد ظهوره على القنوات العربية، قبل أن يتحوّل تركيزه نحو صفحته على فيسبوك، حيث يوجّه فيها خطابه للشارع العربي مباشرة باللغة العربية، وينشر فيها أغانيه المفضلة لفيروز وأم كلثوم، أو يشارك معلومات تتعلق بطقوس واحتفالات دينية ووصفّات طعام وحلويّات يطبخها جنود من جيش الاحتلال. 

كان اللافت في حالة أدرعي كونه الصلة المباشرة الأولى مع عسكري من جيش الاحتلال، خاصة مع إصراره على التحدّث باللغة العربية واستعرض مهاراته اللغوية. كل ذلك خلق حوله نوعاً من الفضول الذي جعله يكسب الكثير من المتابعين الذين يريدون معرفة عما يتحدث وماذا يفعل. لكن جهوده تصب في خانة البروباغندا السياسية المُعلنة والمباشرة. 

في الأسابيع الأخيرة بدا أفيخاي أدرعي منشغلاً بالمهّمات التطبيعية. نراه يستقبل ويودّع وفوداً من سياسيين عرب جاؤوا لزيارة الكيان الصهيوني، ويشارك رسائل الشارع السعيد بالخطوات المنجزة في هذا السياق. لكن مع ذلك لا بد من التساؤل عن مدى نجاح جهود أدرعي على مدار السنوات في تحقيق رسائله، كم من قناعات استطاع أن يغيّر؟ ومن هي الفئات التي نجح في اجتذابها حقاً؟ 

شرب الكيّان الصهيوني بالملعقة

شهدت الأشهر الماضية، تسارعاً في الخطاب التطبيعي العلني والمباشر إن جاز لنا القول. مع كل يوم جديد يقع المرء على مقالات وأغانٍ وجلسات حوارية تتحدث عن التفاهم والتناغم وتقبّل «الآخر» القادم من الكيان الصهيوني.

كان آخر الانتاجات التطبيعية أغنية «سلام الجيران» الصادرة عما يسمى المجلس العربي للتكامل الإقليمي، وهي من أداء الفنان التونسي نعمان الشعري بالشراكة مع مغنٍ من الكيان الصهيوني يدعى زيف يحزقيل. 

اللافت والمطمئن في الأغنية هو درجة ابتذالها وضعفها، من حيث الكلمات والبنية واللحن واللقطات المختارة. يتضمن العمل صوراً ملتقطة من تونس وفلسطين المحتلة، يظهر فيها المؤديان وهما يرتديان اللون الأبيض. تبدأ الأغنية بجلوس يحزقيل في مقهى «فيروز» في يافا المحتلة لشرب الشاي، لنرى المؤديان فيما بعد يقرأان كتبهما السماوية، ويتجولان في الشوارع ويوزعّان الابتسامات. 

خلال الأغنيّة، يعرّف كل مؤدي عن نفسه وقوميته، وينتقل للتحدث عن دينه ومعتقده، ليقولا في الأخير أنهما يمتلكان حلماً مشتركاً بالصداقة وتجاوز الخلافات. من العبارات التي قد تمر في سياق الأغنية: « أنا عربي ولديّ أمانٍ/ التصالح بين الجيران»، وأيضاً: «نحن بوفاقنا شدّنا التلاحم بانسجام، غاياتنا نبني جسوراً للسلام». وكأن ابتذال الكلمات لم يكن كافياً؛ نرى زيف يحزقيل في ختامها يطيّر حمامة سلام بيضاء. ومع ظهور تتر النهاية، نشاهد تلفزيوناً قديماً يظهر فيه الرئيس المصري السابق أنور السادات وهو يخطب حول أهميّة السلام. 

قد لا يتجاوز دور إنتاجات من هذا النوع حدود بث الاستفزاز لرافضيه، أو الثناء عليه ضمنيّاً من قبل الموافقين على مضمونه السياسي. لكن لا خطر مثلاً في أن تتحول «قصيدة سلام الجيران» لأغنية تلازم يوميات الأشخاص، بحيث يرغبون في سماعها في الصباح أو أثناء أداء أعمالهم. رغم ذلك هناك ضرورة لرصد الخطاب اللاحق لهذه المبادرات، والوقوف على عناصر الجدل الشعبي والثقافي المحيط بها. 

التطبيع مع الكيان الصهيوني أثناء النوم 

كثيراً ما يتم العمل على التطبيع بصبر وتدريج على مستويّات معقدة ومركبّة، مثل: اللغة، بمعنى السؤال عن الاسم الذي يجب أن نطلقه على هذا الكيان؟ يتضمن هذا المستوى أيضاً بناء صورة ذهنية عن الكيّان الصهيوني كبلد متقدّم ومتطوّر يخصص مبالغ كبيرة من ميزانياته للمختبرات العلمية والمشاريع التكنولوجية والحيوية. بمعنى الإضاءة على جوانب أخرى برّاقة بعيداً عن المنظومة العسكرية الممثلة بجيش الاحتلال ومنظومة سلاحه. 

فيما تقع ضمن هذه الخانة بالطبّع جميع المسلسلات والأفلام السينمائية والمؤلفّات الأدبية التي روّجت للكيّان الصهيوني بصورة غير مباشرة، كأن يتم ذكره عرضياً أو يتم حشر شخصية قادمة من الكيان الصهيوني أو عائدة إليه، لمجرد تكريس الاعتراف به. 

خطر التطبيع اللاوعي 

يقع الشباب العربي كل يوم أمام معضلات أخلاقية وإشكالات سياسية تتطلّب منهم أخذ موقف. لكن ذلك لا يتضمن قصيدة جيران السلام، أو صفحة أدرعي، فالإشكالات موجودة حقاً في مكانٍ آخر تماماً. كثيراً ما يتعلق البعض بلحن موسيقي جديد أو أغنيّة ليكتشفوا فيما بعد بأن الأغنية التي أحبوها يؤديها فنانون أو فرق موسيقية «إسرائيلية». البعض يتوقّف عن سماعها، وآخرون يستمروّن. لكن في كلتا الحالتين اللحن ظّل عالقاً في الرأس، لأنه جميّل ومعقد. والأهم، أنه ورّط مستمعه بفعلٍ سياسي غير واعٍ، رغم أنه لم يأتِ على ذكر الكيان الصهيوني بتاتاً، فهذه الأغنيّات في المحصلة قد تكون كتبت ونفذّت وسجلت في أستديوهات تقع فيه. وفي سياق مشابه، قد تشكّل ناتالي بورتمان خطراً أكبر ضمن مسيرة التطبيع، فالممثلة والمخرجة التي تحمل الجنسيتين «الإسرائيلية» والأمريكية كثيراً ما تصّرح تصريحات إشكالية ومتناقضة. في الوقت الذي تؤكد فيه بأنها لا تدعم نتانياهو والقيادات في الكيان الصهيوني، وتعود لتضيف بأنها ترفض مقاطعة «الأمة» بكاملها، وتقف في وجه حركات المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات التي تهدف إلى عزل الكيان، نتيجة معاملته للفلسطينيين. تأتي الخطورة هنا من الموقف المركب، من الإنتاج الثقافي الذي يراد له أن يُستهلك بمعزل عن السياق الذي أنتجه، والذي كان سياسياً بالكامل وفي كل لحظة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
997