الخطاب الجامع: أبعد من حديثٍ عن الطقس

الخطاب الجامع: أبعد من حديثٍ عن الطقس

وُجِد في الشارع الذي نشأت فيه، ثلاثة صالونات للحلاقة الرجّالية، على الرغم من أن طوّل الشارع لم يكن يتعدى بضع مئات من الأمتار. كما أن الرجال في حيّنا، لم يمتلكوا يوماَ قصّات شعر خاصة تميّزهم عن غيرهم، أو تشي بكم العناية المُكثّفة التي يتلقاها شعرهم من صالونات التجميّل. 

لكن ومع التقدّم في السن، لاحظت بأن تلك لم تكن سمة حيّنا فقط، فالمدينة بأكملها تكرر ذات المشاريع الاقتصادية الصغيرة. في أواخر التسعينات بدأت تظهر أولى صالات البلياردو وألعاب الكومبيوتر، لم يمض وقتٌ طويل حتى امتلأت أحياء المدينة بأكملها بصالاتٍ من هذا النوع. أينما تحرّك المرء يصل إلى سمعه صوت الطابّات الثقيلة وهي تتدحرج على القماش الأخضر، تصطدم مع بعضها، ومن ثم تسقط في مكانها.

جاءت بعد ذلك حقبة رياض الأطفال الخاصة، وعلى المنوّال نفسه؛ تحوّلت الكثير من البيوت إلى قاعات صف، ووُضعت تجهيزات حدائق الأطفال، وبدأت حِيل وألاعيب التنافس بين هذه الجهات، حتى وصل الأمر بإحدى هذه الرياض أن تخطف ذات يوم طفلاً وجدته على الطريق. بحيث لم يتم اكتشاف مكان الطفل إلا بعد البحث والتقصي ليكتشف ذووه بأن تلك كانت محاولة لإقناعهم بتسجيله في مكانٍ آخر.

وتتالت الحقب؛ حقبة آلات الكابتشينو والشوكولا الساخنة في الشوارع، حقبة معاهد تعليم اللغات، حقبة محلّات الموبايل وهلمّ جرا. كما لو أن كل شيء في هذه المدينة مُكرر ومعاد.

ثقافة مكررة أيضاً

مع الانتقال إلى دمشق، لاحظت أنه ورغم التنوّع الذي تفرضه العواصم والمدن الكبيرة، لكن الظاهرة ذاتها تتكرر على مستويّات عدة، وكثيراً ما تتجاوز حدود المنافسة والتقليد في المشاريع الاقتصادية وصولاً إلى العمل الثقافي. ظهرت في دمشق فرق المشي والرياضة وتسلّق الجبال، وسرعان ما نبتت عشرات فرق المشي الشبيهة. بالطبع هنا، كان للتكرار بعدٌ إيجابي، لأن تشجيع الناس على الرياضة واكتشاف الطبيعة السوريّة، والتعرف على قراها القصيّة لا يمكن أن يغدو أمراً سلبياً حتى لو كثرت المبادرات التي تدعو له. لكن الجانب السلبي تمظهر عبر الانقسامات التي باتت تحدث في بعض تلك الفرق، والاختلاف في أشكال إدارتها ورسم أهدافها وطبيعة نشاطها. وكان الأمر ذاته يحصل مع الفرّق الموسيقية، وأحياناً المؤسسات الثقافية والمشاريع الإعلامية. واللافت هنا: أن المشاريع الناشئة كانت قلّما تبدأ من النقطة التي انتهت عندها المشاريع التي سبقتها، بل تكرر تماماً ذات المبادرات وورشات العمل والأنشطة.

انقسامات
حتى في مواجهة الوباء

كان يمكن عدم التوّقف عند هذه الظاهرة كثيراً، لولا أنها أحياناً ما تعيق مشاريع وأعمال أكثر إلحاحاً وخطورة، وتحديداً تلك المشاريع التي تتطلب تضافر أكبر عدد من الجهود لتحقيق أهداف كُبرى. فمع بداية انتشار فايروس كورونا مثلاً، ظهرت العديد من المبادرات الهادفة لتأمين المستلزمات الطبيّة والدواء للمصابين، ودعم الفئات الأشد ضعفاً في مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة التي فرضها الحجر الصحي. خُلقت تلك المبادرات في ظرفٍ طارئ ولتنفيذ أهداف محددة، لكن مع مرور الوقت وامتداد أمد الجائحة، بدأت الخلافات تظهر في صفوف المتطوعين، أو الأناس الذين عملوا ضمنها. وامتدت الانقسامات تلك للكثير من المبادرات من ذات النوع في مختلف المحافظات السورية. بعد أن كان الناس يقفون مع بعضهم البعض في مواجهة الوباء مخاطرين بصحتهم، بات بعضهم ينجّر نحو المهاترات والمشاجرات على الفضاء الإلكتروني، معلناً انقسامه أو نأيه بنفسه عن العمل مع هذه الجهة أو تلك، وصولاً إلى إصدار بيانات وتصريحات بحق أناسٍ كانوا قبل شهرٍ فقط مستعدين لحمايتهم بكل طاقتهم.

توافق يتعدى أحاديث الطقس

يمكن الاستنتاج من الأمثلة التي تمّ ذكرها، أن هناك سمتيّن طاغيتين على الكثير من المشاريع الاقتصادية والمجتمعية والثقافية في سورية، أولهما: النسخ أو التكرار. وثانيهما: النزعة للانقسام وتشتت الجهود.

بالطبّع، تتجلى خطورة النزعة للانقسام في العمل السياسي تحديداً، وخاصة حينما يكون الهدف جمع أكبر حشد شعبي، أو تنظيم أكبر قدر من القوى السياسة لتحقيق هدف معين، وإحداث التغيير في المجتمع. بالتالي، يصبح السؤال هنا متركزاً حول طبيعة الأفكار أو القيّم التي تحصد أكبر درجة من التوافق بين الجميع، أو بمعنى آخر السؤال عن المسّلمات والأرضيّة المشتركة، مقابل القضايا الخلافية والتي قد تكون أحياناً أكثر ثانوية، ويمكن تجاوزها.

فأحياناً من أجل الالتفاف على القضايا الخلافيّة، ومحاولة بناء أرضية مقبولة من الجميع، يتم تبسيط القضايا والطروحات إلى الحد الذي يُفقدها معناها. بحيث يشبه الأمر في هذه الحالة الاقتصار على أحاديث الطقس بين الغرباء، كما لو أن أي حديث يتجاوز درجة الحرارة ومنسوب الأمطار قد يهدد باحتدام الخلاف. ويتم في هذه الحالة الاكتفاء بالترويج لشعارات فضفاضة ومكررة دون التطرق لجذور المشكلات، أو أسبابها، أو اقتراح آليّات لحلّها.

في حين يعكس النزوع للتكرار وتحديداً في المشاريع الاقتصادية مثلاً، عدم الرغبة في المخاطرة في البحث عن أبسط المشاريع التي قد تحقق مستوىً مقبولاً من الربح، دون أن تفاجئ الجمهور بمشاريع أو خدمات جديدة، حتى لو كان ذلك يعني تحوّل أسواق بأكملها لبيّع المنتجات ذاتها. فالحي الذي كان يوماً مكتظّاً بالحلاقين بات اليوم مزدحماً بمحلّات السمانة، التي تمد أمام واجهاتها بسطات لخضار ذابلة تكسد دون أن تجد من يشتريها.

من جهة يمكن القول: إن تشجيع الناس على المخاطرة بطرح أفكار جديدة قد يكون أحد الحلول، لكن ذلك لا يعدو كونه حلاً مُجتزأً، فالحقيقة أن سوق العمل والصعوبات الاقتصادية تمنع الناس من المخاطرة بالمبالغ التي نجحوا بجمعها، وبالتالي، يكون الهروب نحو الخيارات التي تبدو أكثر أمناً وضماناً أمراً مفهوماً. لكن هذا الأمر لا ينطبق على العمل الثقافي أو السياسي، فالثقافة في جوهرها قائمة على الخلق والإبداع، وكل ما هو مكرر ومعاد ينافي جوهرها ودافع وجودها. أما فيما يتعلق بالسياسة فهامش الجرأة في الطرح مطلوب وضروري. لا بد من البحث عن الأفكار الجامعة التي توحّد الناس وتقربهم دون الاكتفاء بالاختباء في المساحات الآمنة. فالحديث عن الطقس لا يكفي لصنع التغيير.

معلومات إضافية

العدد رقم:
996