انهيار عقل «حضارة» الليبرالية تحت وزن الزمن المتكثِّف
مجدداً، إن جانباً مهماً من الأزمة الرأسمالية ما زال بحاجة إلى إبراز في الخطاب العام، وما زالت القوى الحاملة له قليلة. إنه الجانب الذي يعبّر عن وصول إحداثيات المجتمع الرأسمالي كلها إلى حدودها التاريخية. وكنا قد أشرنا أن العقل في بنيته الليبرالية، إن كان في تناقضه الداخلي وأرضيته ومعاييره التي تحدد العلاقة مع العالم، هو من أهم هذه الإحداثيات التي تصطدم اليوم بالحدود التاريخية للمجتمع الرأسمالي. وهذا يظهر اليوم في التقاء أزمة الفرد مع أزمة المجتمع بشكل وثيق، تاركاً نتائجه على الظاهرة العقلية عالمياً، والتي لا زلنا في بدايات تشكلها كخط عام يحمل احتمالين: اتجاه بديل تقدمي، وآخر عدمي تعبير عن انهيار العقل نفسه.
معالم مبكرة
من معالم أزمة «الحضار الغربية» المبكرة هو النقد الذي تبلور في الغرب تحديداً، حيث تطورت فيه أزمة الفرد الليبرالي بشكل سابق عن تبلورها في المجتمعات التابعة. فالمجتمع الغربي يمثل ذروة تطور الليبرالية على مستوى الثقافة والعلاقات، ونمط الحياة بشكل عام. فالرأسمالية في المركز لم تكن مكبوحة كما تلك التي في الأطراف. وحسب ماركس، في تطور الظاهرة إلى شكلها الناضج يمكن الكشف عن قانونها العام. وإذا ما كان الاقتصاد السياسي للرأسمالية تم تطويره في الفضاء الذي تطورت فيه الرأسمالية بشكلها الناضج، فإن أزمة الفرد الرأسمالي، كان لا بد أن تتم بلورتها نظرياً في هذا المجتمع بالذات بشكل مبكر عن تطورها في المجتمعات الأخرى. وهنا يمكن أن نعود إلى المنتج الفكري للتيارات النقدية في الغرب، ماركسية وغير ماركسية. ومن أهمها: مدرسة فرانكفورت، التي بغض النظر عن منهجها، أو تعدد المناهج للمنتمين إليها، التي ضمت ماركسيين وغير ماركسيين، قدمت الإشكاليات التي يعاني منها «الإنسان الغربي». واتسمت ملامح النقد الفرانكفورتي بطابع وجودي عامة. وما يهمنا منها هي الإشكاليات المبكرة التي قدمتها. من الكتب «خسوف العقل» لماكس هوركهامير وثودور أدورنو، و«مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسل ليبرالي» ليورغن هابرماس، و«الإنسان ذو البعد الواحد»، «الحب والحضارة»، و«العقل والثورة» لهربرت ماركوز.
خبوت النقد
على ضوء تراجع الخط الثوري عالمياً تراجع النقد للجانب الفرداني من الأزمة الرأسمالية، في الغرب بشكل خاص، حيث غرق العالم الغربي بوهم الليبرالية وطروحاتها التي موّهت الأزمة، ولم تلغها، فتعايَش المجتمع مع أزمته، وهذا ما سمحت به بنية الرأسمالية المركزية «الاستيعابية» على عكس بنية الرأسمالية الطرفية «الرفضية». ولم يصل هذا النقد في المجتمعات الطرفية إلى درجة من النضج اللازم، بسبب طبيعة الصراع في الدول التابعة، الذي أخذ ملامح التحرر الوطني، وحرب التحرير والمقاومة المباشرة ضد الاستعمار، وبقيت أزمة الذات الفردية تتسم بملامح مباشرة، إلى أن تطورت الليبرالية في مرحلة التسعينات بشكل كبير في المجتمعات التابعة.
عودة النقد، ولكن!
يعود النقد مجدداً من باب الأزمة العميقة، حيث تتلاقى الأزمة الفردية مع الأزمة الاقتصادية-السياسية للرأسمالية، التي لم تعد تستطيع تمويه الفردي لا في المركز ولا في الأطراف. ولكن الليبرالية طبعت جميع الدوائر الأكاديمية والعلمية والسياسية بطابعها. ولهذا فإن اتجاهين عامين يطبعان العقل في مرحلة ذروة الأزمة: اتجاه انحدار العقل ليسقط في عدمية هدّامة وإحباط عام، واتجاه آخر يرتبط بشكل مباشر ببناء المجتمع البديل، وثيق الصلة بحركة سياسية قادرة على وعي تعقيد الأزمة، كأزمة نمط حياة، كأزمة حضارية، قادرة على ربط الفردي والعام، في مشروع شامل تحت حطام المجتمع القديم المنهار، وآلامه، التي تتطلب أكثر ما تتطلب وحدة القوى الجذرية، متى وجدت، في مختلف المجتمعات. وهذه عملية تتطلب الوقت اللازم لها.
وهذا التلاقي العملي بين الفردي والاجتماعي يحصل لأول مرة في التاريخ، فالتلاقي بينهما كان في الجانب المباشر سابقاً، أما اليوم فما كان نظرياً سابقاً صار عملياً، فأزمة العقل وإشراقه ترتبط مباشرة بعملية التغيير السياسي، وتحقيق ظروف حياة نقيضة تحافظ على العقل وتتجاوز أرضيته ذات المرجعية الليبرالية، وتحرر ممارسته من كوابح علاقات الإنتاج الرأسمالية.
ولهذا فإن هذين الاتجاهين سيتنازعان الحياة العقلية والروحية للمجتمع البشري في المرحلة القادمة، ويمكن القول: إن نتائجهما لم تتبلور بشكلها الكامل، ولا زالت خسائرها في مراحلها الأولى. فالنتائج الاجتماعية والاقتصادية المباشرة تسبق العقلي والروحي. وها هي الجماهير بدأت تفقد اتزانها العام، وينهار من تحت أقدامها ما كان بالنسبة لها خط حركتها المستقبلي والذي على أساسه تضبط تفكيرها ومشاعرها وممارستها.
تهديد العقل وزمن متكثِّف
إن انغلاق أفق المجتمع الرأسمالي، وانهيار نمط الحياة المرتبط به يهدمان بالضرورة العقل العاكس لهذا المجتمع. وهذا ما يولد مجمل الاضطرابات العقلية والنفسية التي كانت تعتمل في قلب هذا المجتمع على مدى عقود سابقة، دون أن تصير خطوات عامة للبشرية، كالفصام والعصاب. أما اليوم فصارت هذه الأزمات الفردية السابقة شاملة للظاهرة العقلية في المجتمع بأسره. لهذا فنحن أمام فراغ روحي وعقلي، يمكن على أساسه أن نعلن أننا أمام مرحلة الإحساس بالهدر الواعي للحياة.
هذه الملامح تقول: إن ما كان يحصل في السنين السابقة لمّا كان الإنسان يقوم في أواخر عمره يُجري مراجعة لحياته وتقييماً لما كان، ولما يجب أن يكون، يحصل اليوم في مراحل عمرية مبكرة. وهذه الظاهرة التاريخية هي تكثيف تاريخي للزمن، ولمراحله. لهذا فإن الفرد اليوم يحمل أعباء العمر كلها في لحظات، ما يرفع وزن الزمن في وعيه، ويظهر جوهر المرحلة إلى الواجهة. وهذا ما يجب أن يجري العمل على طرحه في ممارسة قوى التغيير وخطابها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 981