كم الأفواه أن تكون لوحة توعوية متحرّكة

كم الأفواه أن تكون لوحة توعوية متحرّكة

قبل عدّة سنوات خرج أحد العلماء بمقترح مجنون رغم بساطته للقضاء على الزكام، حيث اقترح في ذلك الحين أن يرتدي كل سكان العالم، كل واحد فيهم، كمامة مدة أسبوع. بدت فكرته تلك أشبه بخرافة جميلة لا يمكن تحقيقها، رغم أنها في الظاهر بسيطة جداً. ذلك أنها تتخيل الكوكب أشبه بأوركسترا مضبوطة ومتناغمة، تتطلب من كل شخصٍ فيها درجة عالية من الالتزام، لأن أي خللٍ سيخرّب اللحن ويُفسد الخطّة.

واليوم، تعود صورة العالم الذي يغطي فمه بكمامة لتكون حلماً مرةً أخرى، كما لو أن قطعة القماش تلك رغم هامشيتها وبساطتها تمتلك قوة مستترة. خاصةً وأن العدو هذه المرة أشرس من الزكام، والخسائر الإنسانية والمادية التي يُخلّفها أعظم.

حواجز نفسية- ثقافية

بعد انتشار الوباء بصورة مثيرة للقلق في سورية، خرجت الطبيبة شغف فاغور التي تعمل في مشفى المجتهد بفيديو مصوّر توجهت للناس فيه بعبارات صادقة تُشجعهم فيها على ارتداء الكمامة. تساءلت الطبيبة بلغة بسيطة يفهمها كل من يسمعها: «أخبرني أرجوك بماذا تزعجك الكمامة؟ تجعلك تشعر بالحر؟ نحن أساساً نرتدي كل هذا الكم! من الثياب فهذه القطعة الصغيرة من القماش لن تؤثر».
والحقيقة، أن الموقف الشعبي من الكمامة، أو بالأحرى الحواجز النفسية والثقافية مع الاقتصادية، تجاه ارتداء الكمامة في المجتمع السوري تستلزم منّا نظرة أعمق.
يعزو الكثيرون الامتناع عن ارتداء الكمامة لسوء الوضع الاقتصادي من جهة، وللجهل من جهة أخرى. لكن ورغم أهمية هذين العاملين هناك أبعاد أخرى للموضوع. فهناك شرائح واسعة تقلع عن ارتدائها على الرغم من أنها تملك المال أو المعلومات اللازمة.

«لماذا لا ترتدي الكمامة؟ أخبرني حقاً بماذا تفكر؟»

لو أن أحدهم فكّر في طرح هذا السؤال على عامة الناس بصورة خالية من التقريع أو الملامة، كما لو أنه ينتظر سماع مشاعر وأفكار حقيقية، كان سيتفاجأ من الإجابات التي ستأتيه.
فهناك بدايةً شريحة من الشبان الذين يسايرون صيحات الموضة، ويشتكون من أن المجتمع لا يفهم ثيابهم وأوشمهم وقصّات شعرهم، وهم اليوم في صدارة من يمتنعون عن ارتداء الكمامة. هؤلاء وعلى الرغم من كونهم يصارعون كي يقنعوا الآخرين بأن المظهر خيار وحرية شخصية، لكنهم كانوا أكثر خجلاً هذه المرة من الدفاع عن قطعة القماش عديمة الشكل هذه. لأن ارتداءها يعني بأنهم خائفون على أنفسهم أو عائلاتهم، أو أنهم صحيوّن، وهذه ربما مظاهر تفتقد للجاذبية، أو الصورة التي أرادوا تكريسها عن أنفسهم.
فيما نقابل في الشوارع السورية شريحة من الأشخاص الذين يتركون كمامات مطوية ومعقمة في حقائب أيديهم أو جيوب ثيابهم، لكنهم وفي الوقت ذاته لا يرتدونها لأنهم يخجلون، وفهم منابع هذا الخجل هو الأهم هنا.
يأتي الخجل بدايةً من التخوّف من الوقوع ضحيّة للسخرية والازدراء والنظرات المتوجسة في الشارع، وأعتقد أن الكثيرين منّا لديهم قصص يروونها في هذا الخصوص. أنا مثلاً جربت أن تمر بمحاذاتي سيارة مسرعة تُبطئ بمجرد الاقتراب مني كي يفتح شابٌ الشباك ويصرخ أمام وجهي «كورووونااا» قبل أن تبتعد الحافلة. ابتسمت له لكن الكمامة للأسف أخفت الابتسامة.
يخبرني رجل ستيني بأنه يشعر بنفسه فوقياً حينما يرتدي الكمامة أو «شايف حالو على البشر» وفق كلماته هو، كما لو أنه بارتدائها يقول: إن حياته هو أهم من حياة من حوله. فيما يتحدث شابٌ في الثانية والثلاثين من عمره أن مشهد شارع مليء بأناس يرتدون الكمامة يثير لديه رغبة في الضحك: «أشعر أنني اقتحمت فجأة غرفة عمليات، وأننا أصبحنا جميعاً أطباء».

كم أفواه طوعي

يشكل التواضع أو «أن تضع نفسك على قدم المساواة مع الآخرين»، واحداً من خصوصيات البنية الأخلاقية أو النفسية للشعب السوري، ولهذا ربما يُقال بأنه شعب بسيط وطيب. فالناس عموماً تنبذ التعالي والمتعالين ويتم تربية الأبناء ليكونوا سواسية مع غيرهم، متجنبين أي رد فعل يوحي بالغرور أو الفوقية. يجب أن ترحّب بالآخرين وترد السلام بأحسن منه، وإذا ما عرض عليك الآخر طعامه عليك أن تشاركه جزءاً منه. وحتى في المدرسة، يتجنب الأهل أن يرسلوا مع أطفالهم موزة أو قطعة حلوى فاخرة، كي لا يجرحوا بذلك مشاعر أطفال آخرين لا يملكون القدرة على شراء هذا النوع من الأطعمة. ويُعبّر عن هذا التوجه بعبارات من قبيل: «سعري بسعر كل هالبشر» أو «اللي بيصير عليّ بيصير عليهن». هذا التوجّه تعاظم خلال سنوات الحرب خاصة مع سيادة شكل من أشكال الفقر الشامل، كما أن عدم الخوف على السلامة الشخصية تحوّل إلى إستراتيجية تأقلم مع مفاجآت الحرب.
وبالتالي، هذا التوجه وثيق الصلة بالموقف من الكمامة. فالناس بارتدائها يشعرون بأنهم يُميّزون أنفسهم عن الأخرين، أو يقولون بصورة أو أخرى: «أنا مختلف» و«حياتي أكثر أهمية». أو يجعلهم ببساطة مرئيين أكثر وهم يريدون البقاء في الهامش. ولهذا تحديداً؛ خجلهم قد يقتلهم.
ولكل هذه الأسباب المذكورة، فرض الكمامة بصورة إجبارية وتأمينها لمن لا يستطيع الحصول عليها، يريح الناس من خجلهم، ويساوي بينهم مرةً أخرى. ففي الوقت الذي كانت فيه القذائف تتساقط من سماء دمشق ولا تعرف من تصيب، كنا نردد «سعري بسعر كل هالبشر» لأن أحداً منا لم يمتلك المقدرة على كف الأذى وحماية نفسه أو الآخرين، لكن الأمر مع الوباء مختلف، لأن المرء قادرٌ بصورة أو أخرى على تقليل الضرر وحماية غيره.
ربما يكون الكلام في هذا الأمر غير مفيد، الأجدى أن نَكُمّ أفواهنا بمحض إرادتنا كي نجعل المشهد سائداً ومألوفاً أكثر، كما لو أننا لوحة توعوية صامتة ومتحركة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
981
آخر تعديل على الإثنين, 31 آب/أغسطس 2020 12:41