ضد مقولة احتكار الغرب للعقل، ومعانيها..
ارتكازاً إلى مقولات الأورومركزية التي تشدّد على تركّز العلم في العالم الغربي عامة، وعلى ضوء التطّور العلمي الصيني في العقدين الأخيرين، تصاعدت مقولات «التقليد وسرقة» العلوم من قبل الصين. يدعم هذه السردية مقولة «القلب للشرق والعقل للغرب»، والتي شكل نقدها مضمون كتاب الشهيد مهدي عامل «هل القلب للشرق والعقل للغرب؟». هذه المقولة ضعفت اليوم أمام قدرة الصين على الإبداع الخاص، وتسجيل تصاعد في براءات الاختراع، وكمية المنشورات العلمية الخاصة. ولكن التوسع في نقد هذه المقولات يكشف أولاً: التغييب البورجوازي لعامل انقطاع تطور المجتمعات على أساس الاستعمار، وبالتالي، يستبعد دور الاستعمار، ولكنه يكشف أيضاً وهماً أكثر تخفياً لدى إيديولوجيا البورجوازية حول توصيف العلوم وتصنيفها، واستبعاد علم المجتمع والتاريخ من مجال العلم.
الخط الزمني للعلوم والانقطاع
إن تتبع الخط الزمني لتطور العلوم الطبيعية على مستوى الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والفلك، يظهر بطلان قضية تركّز العلم في العالم الغربي عموماً. والأمثلة على ذلك كثيرة. وهذا التتبع يكشف بشكل واضح ارتباط العلم (تراجعاً أو تقدماً) بالتطور الاجتماعي، وقوى الإنتاج بشكل مباشر.
بعيداً عن تطور العلم في مراحله الأولى في المجتمعات البدائية ما قبل الميلاد بآلاف السنين، التي قدمت فيها كل المراكز الحضارية مساهمتها، من إفريقيا إلى آسيا إلى أوربا عبوراً بالعصر الحجري والبرونزي والحديدي (النار، الملابس والأٌقمشة، الزراعة البدائية والتخمير، والفلك، البناء والزجاج، والعجلة ووسائل النقل البري والبحري، والصرف الصحي، وعلوم التجميل). إلا أن العلم في المرحلة التي سبقت المرحلة الاستعمارية الغربية التي قطعت التطور الاجتماعي لباقي المجتمعات، شهد تطوراً غير بسيط ربطاً بالتطور الاجتماعي الإنتاجي للمراكز الحضارية في العالم الذي قطعته الإمبريالية لاحقاً.
في الشرق الأقصى، مثلاً: في الهند والصين، نجد في المرحلة الممتدة من القرن الرابع قبل الميلاد وصولاً للقرن الرابع عشر ميلادي، اختراعات مهمة كالمنجنيق، والتعشيق الميكانيكي (تغيير سرعة الآلات) والأقلام، واستخدام المركّبات الكيميائية في الحروب (كنيترات البوتاسيوم) والتنقيب (مثال: استخراج الزنك)، وما يشبه التعاونيات، وحتى ما يشبه الشيك المصرفي، والأبواب الآلية (اعتُبِرت بدايات الأتمتة) ودولاب الغزل، والورق ومفهوم الجريدة، والطباعة الخشبية على الملابس، وقاذف اللهب، والسكر المتبلور(سكر الطاولة)، والشطرنج، البوصلة البحرية والساعة التي تعتمد على البخور، ومقياس الزلازل ورقاص الساعة (البندول)، ومحرك السلسلة اللانهائي كالذي يستخدم في الساعات، وبكرة قصبة الصيد، والجسور الحديدية المعلقة والأعمدة المضادة للصدأ، وآبار النفط، وعيدان الثقاب، ومناديل المرحاض الورقية، والعملة الورقية، واستخدام البورسلان في الصناعة، والبارود والألعاب النارية، والسلاح الناري البدائي والصواريخ العسكرية، والألغام الأرضية والبحرية، والقنبلة والمدفع اليدوي، والصاروخ متعدد المراحل...
بدورها المجتمعات السلافية المبكرة ولاحقاً الإمبراطورية الروسية شهدت تطويراً للعديد من الاختراعات، كغرف البخار، والأحذية المصنوعة من الألياف، والورق المصنوع من لحاء شجر البتولا، وسفن كاسحة الجليد، والأدوات الموسيقية الوترية وتطوير العلوم الموسيقية، ومختلف أنواع الأسلحة كالحصون المتحركة، والآلة الحاسبة الخشبية، إضافة إلى الألعاب البهلوانية كالأفعوانيات الثلجية المرتفعة، والمخارط، وحديد التسليح المستخدم في البناء، وتطور هندسة العمارة الشاهقة التي امتازت بها الكاتدرائيات تحديداً، وأسلحة الرماية السريعة، ومبادئ الدوارات المحورية المستخدمة لاحقاً في الطيران المروحي. ونجد أيضاً العلوم الفلكية، كالتنبؤ بوجود غلاف جوي للزهرة الذي اكتشفه ميخاييل لومونوسوف الذي طور بدوره التلسكوب العاكس خارج المحور (مبدأ لتطوير انعكاس الضوء وتخليصه من الانحرافات). وهناك أيضاً المصعد اللولبي المختلف عن مصعد الرافعة، والتلغراف الكهرومغنطيسي، وأنظمة تسجيل المعلومات عبر البطاقات المثقوبة كنموذج مبكر لعلوم المعلومات، ومراوح الطرد المركزي، والطباعة عبر التنميط الكهربائي، والقوارب الكهربائية...
والكل يعلم الدور المركزي للعالم العربي- الإسلامي في تطور العلوم ربطاً بتطور الدولة الإسلامية من القرن السابع وصولا للقرن السادس عشر ميلادي. تطورعلى مستوى الطب كالجراحة (التخدير، الخياطة، ضماد الالتهاب) وآلاتها، وعلوم التشريح، والسرطان، والعيون، وحتى اعتبار دور العلوم النفسية في الطب، إلى جانب البيطرة. وهناك الرياضيات (الحساب والهندسة ودور الصّفر)، والفلك، كاختراع الاسطرلاب (تتبع حركة الكواكب)، والزراعة (المناخ، واستخدام طاقة الرياح)، والفيزياء، كعلم البصريات والميكانيك، والكيمياء كاستنباط المركَّبات وتطوير البارود للمدافع، وحتى استخدام المواد التخديرية في الحرب فيما يشبه الحروب البيولوجية اليوم.
كذبة العلم «الغربي»
هذا التطور في المراكز الحضارية للشرق الأقصى والمنطقة الممتدة من وسط آسيا وحتى حوض المتوسط (متضمنة الحضارة المصرية) يظهر بكل وضوح الإنتاج العلمي، وينفي صفة «اللا علمية» عن شعوب العالم غير الغربي. ولكن هذا التطور انقطع مع تبلور الرأسمالية في الغرب، التي ألحقت المجتمعات بها بالقوة. حيث انتقل مركز ثقل العلوم الطبيعية إلى الغرب بشكل عام (مع استيعاب مجمل الإنتاج العلمي الشرقي وتطويره)، على الرغم من أن العديد من العلماء في الغرب كانوا من أصول «شرقية» من المهاجرين. ولكونه انقطاعاً قسرياً، لا صفة جوهرية في هذه المجتمعات، ما أن تحررت نسبياً هذه المجتمعات من الاستعمار، وشقت طريقها للتحرر، حتى عاد لها التطور العلمي، وما الحقبة السوفييتية إلاّ دليل ساطع على ذلك، وتؤكده أيضاً الحقبة الصينية الحديثة. فالسوفييت تفوقوا في مختلف المجالات على الغرب.
حتى ولو شهد العلم في الغرب تطوراً بارزاً ربطاً بقوة الرأسمالية على دفع المجتمع للأمام عبر حاجتها للتوسع، إلا أنّ العلم لم يكن «غربياً» في يوم من الأيام. كل المجتمعات ساهمت في تطور العلوم الطبيعية، ربطاً بتطوير قوى الإنتاج والتحرر من كبح علاقات الإنتاج، إما تلك التي تطورت بشكل «طبيعي»، أو التي فرضت عليها بالقوة بفعل المستعمر.
إذاً يتبع التطور العلمي مسار التناقض التاريخي في المجتمع. فالنقلات التي يفرضها التطور التاريخي تدفع معها العلوم للتطوّر أيضاً، الذي ينزاح اليوم مجدداً باتجاه الشرق.
خدعة تصنيف العلوم
ما سبق يظهر بطلان نظرية التمركز الغربي للعلوم، وللشرق فقط قلبه وعواطفه، إلا أننا لن ننجر إلى هذا التصنيف وحيد الجانب للعلوم، والذي يلغي قوانين المجتمع والتاريخ، ويعتبرها خارج مدى العلم (ابن خلدون و«علم العمران» مثلاً، يجري تغيبه من الإبداع العلمي). فالانقطاع المؤقت للتطور العلمي في الشرق والمجتمعات التابعة، تخلله تطوّر علمي من نوع آخر، مدفوعاً بذات قانون التناقض الذي يدفع العلوم الطبيعية. فتطوير قوى الإنتاج يفرض تطوّر العلوم الطبيعية، ولكن التحرر من كبح علاقات الإنتاج يفرض تطوير علم الاقتصاد- السياسي، وعلم المادية التاريخية. وربطاً بالتحرر من الرأسمالية، ولاحقاً الإمبريالية، كان من الضروري أن تُنتج أرقى نظرية علمية مادية تاريخية هي الماركسية- اللينينية التي كثّفت فيها مجمل التطور الفكري العلمي السابق، على مستوى الطبيعة، وعلى مستوى الفكر كون التناقض الذي تخلقه الرأسمالية يخلق الأرضية لتحرر المجتمع كله. هذا أيضاً هو تطور علمي قدّم فيه الشرق مساهمة كبرى. فالقدرة على توجيه الصراع الاجتماعي، وبناء المجتمع عبر فهم قوانينه الموضوعية ليس إلا شكلا آخر أرقى من العلم عبر الثورات، ونظرية الدولة، ونقل هذا العلم إلى وعي الجماهير (ودراسة هذا الوعي) وتنظيمها (دون نكران الإبداع الفني والأدبي كتعبير عن الصراع). فالعلم الطبيعي هو السيطرة على قوانين الطبيعة، أما العلم التاريخي هو السيطرة على قوانين المجتمع المعقدة.
هذا بدوره يُظهِر بطلان لا علمية المجتمع الشرقي، فالثورات الروسية والصينية والفييتنامية والتجارب الاشتراكية في كل بقعة من العالم، أمثلة على الإبداع، فالعلم في كل أشكاله يسير جنباً إلى جنب مع التناقض.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 980