الوعي الشعبي في مواجهة كورونا: حماية الجسد نِكاية بالأنظمة السياسية..
شكّلت أزمة كورونا فرصةً مواتية لتأمّل الاستجابات المختلفة لأنظمة الحكم والإدارات السياسية في تعاملها مع أزمة صحية طارئة ومستجدة. وكان الوباء أيضاً فرصة لاختبار التعبيرات المختلفة عن المواطنة ومسؤولية الفرد تجاه نفسه وتجاه المجتمع ككل.
ففي دول مثل: إيطاليا أو فرنسا، كان الخطاب الشعبي المُحبَط من سياسات حكوماته يؤكد مثلاً على ضرورة التزام الناس بيوتها كرمى للكوادر الطبية المُرهقة في المستشفيات، وليس طمعاً بنيل رضا الجهات الحكومية التي تناشد الناس التزام بيوتها. وعلى صعيد شعبي، عُبّر عن هذا التيار بالكثير من الصور والرسومات التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، لتسخر من أن الأجداد في السابق أنقذوا بلدانهم بشن الحروب والقتال، أما هذا الجيل فسيكون قادراً على التباهي بأنه كان مواطناً صالحاً وأنقذ بلاده بلبس الكمامة أو الجلوس على أريكته طوال اليوم.
حين غابت الثقة وتفشّى اليأس!
في سورية، ظهرت منذ الأيام الأولى من الانتشار الفعلي للفيروس نتائج تراكم سنوات من غياب الثقة بين المواطنين السوريين وحكومتهم. وظهر غياب الثقة أوّل ما ظهر في تشكيك شرائح واسعة بأعداد المصابين المصّرح عنهم رسمياً، وهو تشكيك ما زال مستمراً حتى اللحظة.
تجلّت مشاعر عدم الثقة فيما بعد عبر التخوّف من مدى قدرة المنظومة الصحية السورية على التصدي للوباء، أو تأمين الدعم الاقتصادي للناس كي تلزم بيوتها. من جهتها، استخدمت الحكومة السورية منذ البداية حجتين للدفاع عن نفسها، أولهما بالطبع: أن البلاد كانت تعيش حرباً في السنوات العشر الأخيرة، وبالتالي، فالبنية التحتية بكاملها شبه محطمة. والحجة الثانية: عمدت إلى التذكير الدائم بفشل دول لطالما تباهت بتطورها العلمي والصحي ونظام الرفاه الاجتماعي الخاص بها، لكنها كانت عاجزة عن علاج مرضاها أو وقف انتشار الفيروس. فكان الخطاب الرسمي يدافع عن نفسه بالقول: إن تلك الدول ليست بأفضل حالاً، فما الممكن انتظاره من دولة عالم ثالث أنهكتها الحرب والعقوبات الاقتصادية؟
في مواجهة ذلك كله، تبنّى الوعي الشعبي ما يشبه «النزعة الانتحارية» التي غذّاها شعورٌ باليأس، أو إحساسٌ بأن الشعب السوري يتيم ولا يملك سوى الاستسلام للأقدار أياً كانت، دون انتظار أن تُمَدّ له يد المساعدة، صحية كانت أم اقتصادية. خاصة وأن سياسات الحجر الصحي لم تترافق بدعم اقتصادي أو إغاثي كافٍ، يساعد الذين فقدوا مصادر دخلهم على تأمين حاجاتهم الأساسية. هذا إلى جانب تساهل أصحاب القرار مع ظواهر الفساد التي تجلت في حوادث تهريب الناس عبر الحدود، أو حتى في إخراج المسافرين من الحجر الصحي المفروض لقاء رشاوى مالية. كل ذلك عزز شعور الناس بلا جدوى من الإجراءات المُتّبعة، وهنا بدأت مرحلة تشبه لعبة القط والفأر بين الناس والوباء.
مَن خرج في الأيام الأولى من رفع الحظر سيلحظ أن حركة الناس كانت محمّلة بدرجة غير مسبوقة من العدائية، لكنها عدائية يصبّها الناس بعضهم على بعض. بحيث شهدت شوارع أحياء مختلفة في دمشق شجارات واقتتالات، بدت محركاتها في الظاهر واهية جداً لا تتجاوز تدافعاً في شارع مزدحم، أو محاولات تحرش بنساء عابرات. لكن البعد الأعمق يُظهر درجة الاحتقان التي وصل إليها الناس، بحيث يرضى بعضهم بأن يكسر ويُدمي جسده الذي كان محتجزاً لشهرين في البيت بداعي حمايته.
كمامة اختيارية
منذ تم الإعلان عن رفع الحظر بصورة كليّة قبل شهرين، أفاقت العاصمة دمشق على مشاهد مرعبة للازدحام في الأحياء والشوارع مع انفلات شبه كامل في الإجراءات الاحترازية، فيما أظهرت الجهات المعنية ديمقراطية غير متوقعة في ترك الخيار للناس باعتماد ما يرونه مناسباً من الإجراءات الصحية، وفق تقديراتهم الشخصية، بحيث لا تُرى كمامة واحدة ضمن مئات الوجوه التي تزدحم في الشوارع. في المقابل، تم التركيز على مظاهر شكلية في التعامل مع الوباء، مثل: المغالاة في تصوير مشاهد تعقيم الشوارع ومؤسسات الدولة.
من جانبها، قصرت وزارة الصحة عملها الإعلامي التوعوي- خلال الشهرين الماضيين- على الإعلان الدوري عن عدد المصابين الجدد، وعدد الوفيات، وعدد حالات الشفاء. فنادراً ما يقع المرء في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي على معلومات أكثر تفصيلاً فيما يتعلق بالوباء ومناطق انتشاره، أو حتى التذكير بأهمية الوقاية منه، وكل ما يذكر حول ضرورة الالتزام بإجراءات الوقاية يرد من باب رفع العتب وإخلاء المسؤولية، حتى يقال فيما بعد: «راهنّا على وعي المواطن لكنه خيّب أملنا».
من المقلق جداً مشاهدة أعداد كبيرة من الناس تتصرّف بعكس مصالحها؛ بدت شوارع دمشق في الشهر الأخير أشبه بباحات المدارس الابتدائية، لحظة يعلو رنين الجرس معلناً بدء الاستراحة أو انتهاء الدوام. كما لو أن الناس كانوا محرومين قسراً من الخروج، والآن بات مسموحاً لهم ذلك، وكأن صحتهم نفسها ملك للحكومة، وهم حتى لا يملكون أجسادهم، بل تراهم مستعدين لجعل هذا الجسد أكثر مرضاً، أو أكثر تعباً، نكايةً بنظامٍ ما، أو بالعالم أجمع.
حماية الجسد مقاومة
قد يكون من السهل جداً الاستسلام لتبني الخطاب الذي يسخر من انعدام الوعي، ويشبّه الناس بالقطيع الأهوج الذي يتحرك دون هدى، بحيث يبدو أن الحكومة السورية فعلت ما عليها، والباقي ظلّ مرهوناً بدرجة وعي المواطن. لكن السؤال الأجدر بالطرح يتعلّق بالأسباب التي أوصلت بعض الناس إلى تلك الدرجة التي يشعرون فيها بانعدام الانتماء لأوطانهم، ولبعضهم البعض وحتى لأنفسهم، أو يجدون أنفسهم مضطرين للمفاضلة بين أشكالٍ مختلفة من الموت جوعاً أو مرضاً.
حوّلت السنوات الماضيّة سورية إلى مسرح للفوضى، وأثبتت أن الفوضى مجزية بالنسبة للأطراف المتنازعة وتجار الحروب، وبالتالي، لا يوجد ما يمنع من استثمار الوباء لتعزيز المزيد من الفوضى، وتحوّله إلى ورقة ضغط جديدة. ومن هذا المنطلق لا يُستبعد حتى أن يكون السوريون آخر من يستفيدون من اللقاح المرتقب، لأن شفاءهم يقطع الطريق أمام الفوضى. ولهذا بالتحديد يتحوّل فعل «حماية الجسد» والحفاظ عليه إلى شكلٍ من أشكال المقاومة والصمود والتحدّي. لأنه يُعيد للناس الشعور بأنهم فقدوا الكثير، لكنهم ما زالوا يمتلكون أجسادهم، وأن هذه الأجساد ستقاوم وتحارب من أجل حياة تستحقها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 976