ارفعوا أيديكم عن يوسف العظمة
لن نتحدث هنا عن حياة يوسف العظمة، أو أحداث معركة ميسلون 24 تموز 1920، لأن كتب التاريخ أشبعتها وصفاً وسرداً وتوثيقاً، بل سنخوض في نقاط خمس تتعلق بالدور التاريخي لوزير الحربية السوري، وتراث ميسلون العظمى في الذكرى المئوية للمعركة.
النقاط الخمس حول يوسف العظمة
النقطة الأولى: يوسف العظمة واحد من الثوريين القلائل الذين احترفوا التقاط اللحظة، وساهموا في دفع الحركة الاجتماعية لعقود متتالية بعد استشهاده، لدرجة طبع التاريخ السوري خلال الـ 100 عام الأخيرة بطابع معركة ميسلون، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم «دور سورية التاريخي في العالم العربي والمنطقة» أو «التقاليد الوطنية للشعب السوري»، والانطلاق من ذلك نحو المستقبل. كما أنه واحد من الشخصيات التي حَوْلها إجماع عام في الوجدان الشعبي للبلاد.
النقطة الثانية: فتحت ثورة أكتوبر الاشتراكية عهداً جديداً أمام شعوب العالم، تمثلت في الثورات العمالية في الغرب، وثورات التحرر الوطني والاجتماعي في الشرق. كان يوسف العظمة يعي الظرف الدولي الذي فتحته ثورة أكتوبر، ويقول القائد محمود الأطرش في مذكراته: ثارت الجماهير في سورية في وجه الاحتلال الفرنسي في تموز 1920 على الرغم من استسلام الزعماء الكبار، وقاومت من دون استعداد وبشجاعة أسطورية جيش الاحتلال الفرنسي، على الرغم من تفوقه الهائل بالعدد والأعتدة، واستشهد في معركة دارت في ميسلون- دفاعاً عن دمشق- فريق من الشبان الثوريين السوريين الذين استهوتهم ثورة أكتوبر ومبادئ حق الشعوب في تقرير مصيرها، التي نادت به، بينهم يوسف العظمة.
النقطة الثالثة: يوسف العظمة، هو منظم القاعدة الخلفية للمقاومة الشعبية والثورات السورية التي اشتعلت ضد الاستعمار الفرنسي بين عامي 1918-1927. فثورة جبل عامل اشترك فيها 300 من ضباط وجنود يوسف العظمة، كما أرسل ضباطه لقيادة أركان ووحدات الثوار ومساعدتهم عسكرياً في ثورة الشيخ صالح العلي في جبال الساحل وثورة إبراهيم هنانو في جبال إدلب. وقاد ثلاثة من ضباط الجيش ثورة حماة، كما قاد آخرون ثورات المنطقة الوسطى والقلمون وجبال عكار، واعتمدت الثورة السورية الكبرى كلياً على ضباط يوسف العظمة، إذ اشترك فيها 50 ضابطاً استشهد ثلثهم في المعارك. قاد هؤلاء الضباط معارك الغوطة ببسالة، وحاولوا تطبيق النظام العسكري في عصب الثوار، فشكلوا مجلساً لقيادة الثورة «المجلس الوطني للجنة الثورية السورية في الغوطة وضواحي ودمشق» وشعبة للحركات الحربية قامت بعملها بشكل محترف، ومن المعارك التي قادها ضباط يوسف العظمة: معارك وادي فيسان، ويلدا وكفر بطنا وغيرها. وحول هذه النقطة قال سلطان باشا الأطرش «قائد جيوش الثورة الوطنية السورية العام»: يوسف العظمة بدأ، ونحن أكملنا.
النقطة الرابعة: يوسف العظمة مهندس أول تحالف بين الجيش والحركة الشعبية في تاريخ سورية، أي: فكرة وحدة الشعب والجيش بشكلها الجنيني، ففي تلك الفترة نشطت الحركة الشعبية أمام الخطر الاستعماري الذي يهدد البلاد، ومن أبرز محطاتها قرارات المؤتمر السوري العام 1919 ونشاط الصحافة الوطنية، والاهتمام الشعبي الواسع بالشأن العام، واشتعال الثورات في الأطراف السورية، شاملة أجزاء من لبنان والأردن وفلسطين والعراق وتركيا. وعندما أعلن الزعماء التقليديون حل الجيش استجابة لإنذار الجنرال غورو، اشتعلت المظاهرات الغاضبة، فأطلقت الحكومة النار على المتظاهرين واستشهد 200 شخص، وأصيب المئات. ورغم ذلك، هجم المتظاهرون على مستودعات السلاح، وساروا جنباً إلى جنب مع وزير الحربية وخاضوا معركة ميسلون.
النقطة الخامسة: يوسف العظمة واحد من الآباء المؤسسين للهوية الوطنية السورية، فهو بصفته وزيراً للحربية لم يكن رجل سلطة، بل كان رجل دولة، وأصرّ على وجود الدولة السورية رغم أنف الاستعمار والاحتلال، وزحف مع رفاقه إلى ميسلون لخوض معركة يعرف مسبقاً بأنه سيموت فيها.
أشكال محاربة تراث ميسلون؟
الشكل الأكثر شهرة لمحاربة تراث يوسف العظمة، هو النحيب الشعبوي الحزين واليائس على شهداء معركة ميسلون. وكأن أصحاب النحيب يقولون للسوريين: لا تسيروا على طريق وزير الحربية يوسف العظمة! في محاولة واعية أو لا واعية لفصل الشعب السوري عن رموزه الوطنية.
واليوم، وبعد مضي 100 عام على معركة ميسلون، يكيل البعض اللعنات على يوسف العظمة، ويلصق الآخرون به تهماً متعلقة بالانتماءات ما قبل الوطنية، وهو بريء منها، في محاولة واعية لتحقيق أغراض سياسية ما! ويزيد آخرون في الطنبور نغماً بتسليع صورة العظمة ووضعها على ملصقات لإحدى الشركات الليبرالية، التي فاحت رائحة فسادها. بينما يردد البعض الروايات نفسها التي رددها الاستعمار الفرنسي، وبغال عربته قبل 100 عام حَوْل يوسف العظمة ومعركة ميسلون، وفي السياق نفسه، تعامل التاريخ الرسمي، وبعض الكتب المدرسية والجامعية، مع يوسف العظمة بطريقة تجعل منه أيقونة جوفاء يمكن عبادتها فقط، وذلك على حساب إخفاء دوره التاريخي الوطني.
إن رفات شهداء معركة ميسلون قد تم إخفاء أماكن دفنها حتى اليوم، وربما تشبه هذه الواقعة ما حدث للآلاف من رجال الثورات الجزائرية والمصرية الموجودة رفاتهم في «متحف الإنسان»، المتحف النازي- العنصري في قصر شايو في باريس.
يحتوي هذا المتحف على دمى كبيرة تمثل شعوب المستعمرات الفرنسية السابقة. كما يحتوي على عدد من جماجم رجال المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي بين عامي 1839-1962. وكشفت تقارير أن هناك 18 ألف جمجمة محفوظة في المتحف، منها 500 جمجمة فقط تم التعرف على هويات أصحابها، من ضمنهم 36 قائداً من المقاومة الجزائرية، قتلوا ثم قطعت رؤوسهم أواسط القرن التاسع عشر، وظلت تلك الجماجم مختفية حتى رفعت عنها السرية سنة 2011.
إضافة إلى جمجمة سليمان الحلبي قاتل الجنرال الفرنسي كليبر في مصر. الذي أخذ الفرنسيون جثمانه بعد إعدامه، ووضعوا جمجمته في «متحف الإنسان» إلى جانب جمجمة الفيلسوف ديكارت. كتب تحت الجمجمة الأولى «جمجمة العبقري ديكارت» وتحت الثانية «جمجمة المجرم سليمان الحلبي»! في إهانة كبرى للشعبين السوري والمصري.
اليوم، وبعد مضي 100 عام على معركة ميسلون، من يستعيد رفات وزير الحربية السوري يوسف العظمة ورفاقه من شهداء ميسلون؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 975