حرب التماثيل في وداع ليبولد الثاني وتماثيل أخرى..

حرب التماثيل في وداع ليبولد الثاني وتماثيل أخرى..

تضج وسائل الإعلام الغربية هذه الأيام بالتقارير والأخبار عن تماثيل لتجار رقيق أو ملوك عنصريين تُلوّث بالدهان الأحمر أو تُحطّم، أو حتى تُزال، في أمريكا وبلدان أوروبية أخرى كبريطانيا وبلجيكا.

أحياناً ما يُترك مكان تلك التماثيل فارغاً، كي يدلل على أن الرموز التي ستستبدل لمّا تُحدد بعد، أو يوضع بدلٌ منها تماثيل جديدة. ومن الأمثلة على ذلك: ما حدث الأسبوع الفائت حينما نُصِب تمثال جديد في بريطانيا يجسد متظاهرة من أصول إفريقية في حركة «حياة السود تهم» بدلاً من تمثال تاجر الرقيق إدوارد كولستون العائد إلى القرن السابع عشر. حيث تظهر الفتاة في المنحوتة بشعرها الكثيف وثيابها العصرية وهي تصرخ رافعة يدها في تظاهرة.
جاءت هذه الخطوة استمراراً لما يحصل في الأشهر الماضية، بعد أن تم إزالة تمثال عمره (150) عاماً للملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا، وهو الملك الذي احتلت قواته الكونغو واضطهدت وقتلت الملايين. فالملك ظل لعقود طويلة رمزاً وطنياً للبلجيكيين على اعتباره من جلب الحضارة والرقي لبعض البقاع القصيّة في إفريقيا. هذا وأزيل أيضاً تمثال روبرت ميليجان، تاجر الرقيق في القرن الثامن عشر في لندن. وارتفاع أصوات تطالب بإزالة تمثال ثيودور روزفيلت من أمام متحف العلوم الطبيعية في نيويورك. ويصور التمثال المثير للجدل رجلاً أبيض قوي البنية يعتلي حصانه، فيما نرى على يمينه ويساره رجلاً من سكان أمريكا الأصليين، ورجلاً إفريقياً يميشيان على أقدامهما بموازاته. وكان هذا التمثال تحديداً قد لقي الكثير من المطالبات بإزالته، أبرزها جاء في المحاضرة التي ألقاها الرسّام الأمريكي تيتوس كابهار، حول الرموز العنصرية في الفن الأمريكي، وتحدّث فيها عن المرة التي اصطحب فيها أطفاله إلى المتحف، وصدمه كلام ابنته أمام التمثال الكبير حينما سألت: «أبي لماذا يسمح للرجل بركوب الحصان فيما يضطر الآخران للمشي؟»

لماذا اليوم؟

ما يحصل اليوم في بقاع مختلفة من أوروبا وأمريكا يطرح أسئلة حول أسباب بقاء تماثيل مثل هذه حاضرة ومقبولة في الفضاء العام طوال 150 عاماً أو أكثر؟ وبالتالي تمتد التساؤلات حول جوهر التغيرات التي تحصل وتمهّد لإزالة هذه المنحوتات والنصب من الحيّز المكاني الجغرافي، ومن الحيز الرمزي والدلالي أيضاً.
في الظاهر، بدا تحطيم هذه التماثيل كرد فعلٍ مباشر وانفعالي على حادثة مقتل الشاب الأمريكي جورج فلويد صاحب البشرة السوداء قبل شهرين، من قبل شرطي أمريكي متطرف قام بخنقه عبر ضغط ركبته على عنق فلويد مدة تسع دقائق، كانت كافية لقتله على مرأى من العابرين وكاميرات التصوير. إلّا أن هناك في السنوات القليلة الماضية ما مهد لحركة اقتلاع التماثيل ذات المعاني العنصرية- الاستعمارية، من جذورها. فكما يبدو بدأت شرائح من الأجيال الشابة في أوروبا وأمريكا بإعادة النظر في تاريخها القومي والوطني، مخضعة هذا التاريخ للمزيد من التنقيب والنظرة الجدلية. وبالتالي، اقتلاع التماثيل اليوم هو بمثابة إعلان عن توديع منظومة فكرية وثقافية سابقة لصالح منظومة جديدة ما تزال قيد التشكّل.

مصير التماثيل بعد اختفائها

خلافاً لجرعة الحماس التي تبثها اليوم وسائل الإعلام الغربية، فالحرب ضد الرموز الاستعمارية، لمّا تنته إلى الآن نهاية سعيدة. خاصة وأن تيارات اليمين المتطرف الصاعدة اليوم في بقاع مختلفة من أمريكا وأوروبا تضغط على المقلب الآخر لحماية تلك التماثيل. وبالتالي، إزالة بعض المنحوتات من الحيز العام- بعد أن تم تشويهها بالطلاء الأحمر أو تدميرها- جاء بشكل أو آخر لحمايتها عبر نقلها إلى المتاحف والمستودعات بعد تنظيفها من الدهان الأحمر. خاصةً وأن بقاءها مشوّهة ومحطمة على مرأى من الناس كان سيكون أكثر دلالة وقوة بالمعنى الرمزي. لأن التمثال المنحوّت الملمّع ومن ثم المشوّه، كان سيتحوّل إلى درسٍ حيّ ومعمّق في التاريخ. درس يصوّر اختلاف وعي الناس ونظرتهم إلى التاريخ نفسه باختلاف تجاربهم وصراعاتهم اليومية مع المنظومة التي كرسته. وبالتالي فهناك بعض التيارات التي ارتأت إخفاء هذه التماثيل عن الأنظار، لتنفيس غضب المحتجين من جهة، وحفظ التماثيل التي لم تنته صلاحيتها من جهة أخرى.

تماثيل العصر الحديث

يرى البعض أن التفريق واجب بين التماثيل العنصرية والاستعمارية، كما أن دلالات تحطيمها مختلفة أيضاً.
فبالنسبة للمجموعة الأولى، ذكّر موت جورج فلويد شرائح واسعة من الشعوب الغربية، أن المنظومة القائمة مازالت عنصرية بذات الطريقة الوحشية حتى في وجه مواطنيها. فمن حيث بعدها الدلالي، بثت حادثة القتل الجديدة الحياة في تماثيل تجار الرقيق و»الرجال البيض المتفوقين» المنسية في زوايا الحدائق والشوارع.
لكن الأمر مختلف في قضية تحطيم المجموعة الأخرى من التماثيل الممثلة للاستعمار، كتمثال ملك بلجيكا الذي احتل الكونغو. فوجود هذه المنحوتات عبّر لزمنٍ طويل عن الاستعمار بشكله المباشر والفج، الذي أضر بالصورة التي أرادها الغرب لنفسه. وبالتالي اختفاء هذه التماثيل لا يعني بالضرورة نهاية أشكال جديدة من السيطرة الاستعمارية، أكثر ذكاءً من سابقاتها، تنشر الفوضى لحماية مصالحها دون أن تمثّل سياساتها بحفنة من الرموز والأسماء.
بمعنى آخر؛ بعد مئة وخمسين عاماً من اليوم لن نرى مثلاً منحوتة تجريدية تعبّر عن نهج الفوضى الخلاقة، أو صرحاً لصندوق النقد الدولي، أو لوحة جدارية تمجّد الشركات العابرة للقارات. فالعقلية الاستعمارية أدركت أنها يجب أن تعمل بصمت دون أن تبدو استعمارية البتة، بحيث لا تخلّف وراءها تماثيل ينبغي تحطيمها. نراها تشيد بدل التماثيل ناطحات سحاب وسلاسل من المولات والبنوك ومطاعم المأكولات السريعة. لكن الوعي الشعبي من جهته يطوّر آلياته لكشف دلالة هذا النوع من «الصروح الجديدة»، بدليل أن الكثير من الحركات الاحتجاجية بدأت نشاطها بهجومٍ وتحطيمٍ لهذه الأبنية تحديداً.
لطالما كان «التمثال» شكلاً من أشكال التغني بالرمز والاحتفال به والتذكير برسالته ودوره. وبالتالي، فالمطالبة بإزالة هذه المنحوتات من قبل المحتجين والحركات السياسية والمدنية التي تنشأ اليوم في أوروبا وأمريكا هي خطوة إيجابية جداً، لكنها ليست مكتملة بعد. يجب أن تحسم هذه الفئات شكل الرموز التي تريد لها أن تمثلها مستقبلاً، دون الاكتفاء بالتنصل من التاريخ الأسود المُثقل بالعنصرية الفجة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
975
آخر تعديل على الثلاثاء, 21 تموز/يوليو 2020 20:05