«فاوست» لغوته: الفن يؤرخ لولادة إنسان العصور الحديثة
كما هي الحال بالنسبة الى العديد من الشخصيات الأخرى التي ابتدعتها مخيّلات المبدعين على مدى التاريخ الإنساني مثل هاملت ودون جوان ودون كيشوت وغيرها من الشخصيات، تنتمي شخصية «فاوست» الى تلك الفئة من الشخصيات التي بها يؤرخ دخول الانسانية العصور الحديثة: انها الشخصيات الاشكالية التي انبعثت من قلب الإنسان، من طريق المبدعين، لتحمّل هذا الإنسان المسؤولية عن نفسه ذات عصر، وشعوره بالقلق والتجاذب إزاء تلك المسؤولية التي كان ألقاها قبل ذلك على قوى الماوراء مرتاحاً الى يقينات سهلت حياته وألغت اسئلته لا سيما منها تلك الأسئلة الوجودية التي كان قد بدأ يطرحها على نفسه وعبّر عنها في اساطير البدايات ثم بخاصة في السؤال الأساس المنسوب الى سقراط حول معرفة النفس.
وأيضاً كما هي الحال بالنسبة الى تلك الشخصيات، يرتكز بناء شخصية فاوست على واقع حقيقي وشخص عاش فعلاً في أزمان سابقة من دون ان يدري طبعاً انه سيشكل الأساس الذي ستنطلق منه ذات يوم تلك السمات والأفكار التي ستكون اشبه بمرآة ضخمة يشاهد فيها كل امريء نفسه إن هو أحسن النظر. ومع هذا لا بد ان نؤكد ان ذلك الإنسان الواقعي الأساسي، لم يعد على مر السنين هو نفسه، بل عملت فيه ريش الكتّاب وأفكارهم تغييراً حتى بات غريباً تماماً عن الأصل الذي انبنى عليه، وبالتالي صار أكثر خلوداً وحضوراً... لأنه بات رمزاً لشيء أوسع بكثير مما كان عليه. وهكذا، لئن كان الدكتور فاوستوس الأصلي، مجرد «مهرطق نصاب» وفق ما وصفته سجلات مدينة بامبرغ الالمانية التي تحدثت عن وجوده وعن افعاله التي اشتهرت في المدينة، أواسط القرن السادس عشر، فإن هذا النصاب سرعان ما ارتدى في أعمال أدبية ومسرحية وشعرية مسوح الانسان الساعي وراء الحقيقة، الضائع بين الشك واليقين، بين العلم والتجربة الحسية، والمتسائل عن الخلود. وهكذا راحت تنبني هذه الشخصية من كاتب الى كاتب حتى وصلت ذروتها، كما نعرف، مع الألماني غوته، الذي «استولى» على الشخصية وجعل منها الشخصية المحورية في واحد من أعظم الأعمال الكتابية التي ظهرت خلال القرون الأخيرة: مسرحية «فاوست» بجزءيها، تلك المسرحية التي ظل غوته يكتبها ويعيد كتابتها طوال ستين عاماً، واضعاً فيها كل خبرته الفكرية والفنية الجمالية ناهيك بسبره اغوار الكائنات البشرية المحيطة به، واصلاً من خلال ذلك الى التعبيرعن حيرته ومواقفه الانسانية. ولكن أيضاً أسئلته الشائكة المنبثقة من تحوله من البروتستانتية الى الكاثوليكية.
كثر من الكتاب والفنانين كانوا قد تناولوا شخصية فاوست قبل غوته وكثيرون تناولوه بعده. ولكن مع هذا ظل الموضوع دائماً هو هو: رهان الشيطان على قدرته على تملك روح العالم الانساني فاوست، ورضوخ هذا لإغواء ذلك الشيطان مفيستوفيليس، حيث يبيعه روحه في مقابل الخلود والمعرفة. غير ان ما اختلف دائماً هو التفسير والموقف، وهما وصلا مع غوته الى الذروة.
والمسرحية ذات الجزءين تتمحور كما نعرف من حول العالم الشاب فاوست الذي يعيش ارتباكاً في حياته يُلحظ من الأعالي حيث يراهن الشيطانُ الرحمان في تمهيد للمسرحية على انه قادر على ان يجعله يتخلى عن فضيلته التي عرف بها امام اغواءاته. وهكذا في وقت يكون العالم الشاب قد غرق في يأس يظهر له الشيطان ليعقد معه، بعد تردد طويل ونزاع داخلي مر به فاوست، ذلك الميثاق الشهير الذي سيصبح علامة لاحقة في تاريخ الإنسان: يبيع فاوست روحه للشيطان مقابل حصوله على اعلى درجات المعرفة والشباب الدائم... وبعد ذلك يصحب مفيستو فاوست الى الحياة التي كان هذا الأخير يتمناها... الى اللذائذ والى حبيبته غريتشن والى كل ضروب اللهو والنجاح، مقابل ان يستولي الشيطان على روحه مسلّماً اياها له إن هو اراد ان تعيش كل مكتشفات حياته الجديدة الى الأبد.
تلك هي الحكاية الأساسية كما نعرف، ولكن بعد ان تطورت في النص الذي اشتغل عليه غوته كل تلك السنوات حيث صار فاوست لديه – كما سيكون حال الإنسان المعاصر بعد ذلك، اي حين يبدأ بالإستبداد به ذلك القلق الوجودي الذي سيمتد ويتشعب أكثر وأكثر في شكل خاص مع بدايات القرن العشرين - صاحب مشكلة هوية حقيقية تتجلى عبر الصراع بين الانسان الباحث عن هوية له واسباب تبرر وجوده في هذا الكون/ والقوى الفوق طبيعية، لا سيما منها تلك التي لا تتوقف عن ان تأمره بعدم الإستكانة والكفّ عن طرح الأسئلة. وهنا يكمن لب الموضوع: انه بصورة من الصور يكمن في معرفة ما اذا كان في وسع فاوست، الذي يجسّد تصوراً رفيعاً لموقع الانسانية ودورها- وعلى الأقل في الشكل الذي صوره فيه غوته -، ان يفشل مساعي قوى الشر، المتمثلة هنا في إغراءات مفيستوفيليس له. إن فاوست، مثل هاملت، يقف عند نقطة المنعطف بين العالم الحديث والعالم المنتمي الى العصور الوسطى. انه يمثل انسان عصر النهضة الحديث، الذي يشعر في الوقت نفسه ان انتماءه الى العصور الوسطى يقيده، ولا سيما من ناحية المساعي التي كانت قوى الشر تبذلها للسيطرة على تلك العصور وابنائها. ومن هنا ذلك الميثاق الذي يعقده الدكتور فاوست مع الشيطان، على اعتبار ان الميثاق يمثل في حد ذاته هنا نوعاً من تحدٍ قام دائماً في وجه العصور القديمة. ان مفيستو هو في نهاية الأمر رمز لتلك القوة التي تنحو الى ابتلاع عالم الانسان في لعنة ابدية لتسهيل السيطرة على هذا العالم. والسؤال هنا يظل، اذاً: هل سيتمكن الشر من السيطرة على العالم. لا... وذلك بكل بساطة، ووفق ما يؤكد لنا غوته، لأن فاوست هنا يقف حاجزاً في وجه انتشار الشر من ناحية تمثيله لمستقبل الانـــسانية. واذا كان فاوست يقبل بخوض الرهان مع الشيطان، فما هذا إلا لأن الشباب الذي يشكل محور الرهان، انما هو شباب البشرية وأملها في المستقبل. واللافت هنا ان المرأة (غريتشن) لا تمثل الإغواء فقط، بل أيضاً التضحية بالذات، لأنها اذ تقبل بلعب دور الاغواء والشر انما توفر السبيل لوصول فاوست الى التوبة. ومن هنا تلعب هي، ومفيستو، دوراً أكثر أهمية بكثير من دور فاوست، لأنه بحسب غوته، لولا الشر ولولا تضحية غريتشن. ما كان في امكان فاوست ان يحقق حلمه النهضوي، وأن يعطي انسان العصور الجديدة مكانته، وشكه الانساني في الخالص، بعيداً من اليقين المريح؟ واضح اننا هنا لسنا بعيدين كثيراً من التفسير الذي سيعطيه جورج لويس بورخس لاحقاً لشخصية يهوذا الاسخريوطي، ودوره في صلب المسيح، وصولاً الى افتداء هذا للبشرية.
عشرات الكتاب عكفوا دائماً على الاهتمام بشخصية فاوست، من كريستوفر مارلو الى بول فاليري وتوماس مان، لكن غوته يبقى الأهم، ويبقى عمله الأبرز والأكثر قدرة على تقديم المعاني المتوخاة. واللافت ان «فاوست» التي تتجاوز كونها مسرحية لتصبح أشبه بملحمة شعرية ضخمة، كتبها غوته على مدى ستين سنة، ما يعني ان هذا الأخير ظل يعيش في قلب عمله وشخصيته في حيرة وتبدل، لأن أزمة فاوست، كانت هي هي أزمة غوته، وبالتالي أزمة الانسان الذي يرى العصور الحديثة تطل عليه مطالبة اياه بالكثير.
ولد يوهان وولفغانغ فون غوته العام 1749، ويعتبر من رواد الكلاسيكية والرومانسية الألمانية (الرومانسية كما تجلت في «فاوست» بخاصة). درس القانون وبدأ كتابة المسرحية باكراً. وكان في الخامسة والعشرين حين كتب روايته الرائعة «آلام فرتر». ثم شكل جمعية أدبية فكرية هي «العاصفة والهجوم». وبعد ذلك انتقل الى فايمار التي أمضى فيها بقية حياته كاتباً لامعاً ومؤلفاً للبلاط. وانتج الكثير من المسرحيات والنصوص الروائية، كما عرف عنه اهتمامه بالآداب الشرقية....
المصدر: الحياة