الطاعون في الجزائر والفاشية في فرنسا
وردة بطرس وردة بطرس

الطاعون في الجزائر والفاشية في فرنسا

من يقرأ رواية «الطاعون» للكاتب الفرنسي ألبير كامو يستطيع أن يلتمس ‏الشعور الإنساني في الظروف الراهنة. وبإمكان القارئ إسقاط هذه الرواية ‏والتعايش مع أحداثها كأنه يعيشها في أزمته الراهنة مادامت الأوبئة تشترك ‏في بدايتها بغموض أسباب حدوثها، وفقدان الدواء وصولاً لحياة الحجر ‏الصحي، وتتعدد الإجراءات والأزمنة والأوبئة التي تضرب البلدان والمدن ‏المزدحمة لتشل حركة الناس.

الأوبئة والحروب

تقصّ رواية الطاعون الصادرة عام 1947 أحداث مرض الطاعون الذي ‏ضرب مدينة وهران الجزائرية عام 1940 في زمن الاحتلال الفرنسي والحرب ‏العالمية الثانية، ويُسلط الكاتب الفرنسي الضوء على شخصيات الرواية التي جعل ‏كل منها تمثل نمطاً من التفكير والتوجهات وتؤدي مهمة إيصال رسالة تعكس ‏واقع الحياة الاجتماعية في مدينة وهران في ذلك الوقت وتصف آلام الوباء الذي أصابهم.
كتب الراوي باسم شخصيات الرواية عن شعور مرارة النفي القسري في نفسه مع ‏بقية المواطنين، وما نتج من رغبات بالعودة إلى الماضي، أو الرغبة في ‏استعجال الزمن إلى الأمام، واصفاً شعور الوحدة الإنسانية وتقييد الحركة في المدينة ‏الكبيرة التي أصبح سكانها سجناء ومنفيين في بيوتهم، وكيف تصاعد شعور التضامن ‏الإنساني خلال انتشاء وباء الطاعون، وصور أيضاً المحاولات الحكومية الفاشلة في ‏مكافحته. ‏

شخصيات مختلفة

يعتبر الدكتور ريو الشخصية الأساسية في الرواية والأكثر احتكاكاً مع ‏المرض، وهو ذو شخصية تلتزم بأداء الواجب دون الاستسلام للتعب تاركاً ‏زوجته في مدينة أخرى للعلاج، ومقسماً وقته بين وظيفته الصباحية وعمله ‏ضمن الفرق الصحية التطوعية مكرساً وقته لمقاومة الطاعون والتضامن مع ‏ضحاياه.
أما الصحفي رامبير، فهو قادم من فرنسا من أجل تحقيق لحساب صحيفة ‏باريسية حول أوضاع العرب، يفاجئه الطاعون ويحبسه في المدينة، فوجد ‏نفسه مرغماً على هذا البعد عن زوجته، وتُصور الرواية محاولاته المتكررة ‏للخروج من المدينة بشتى الوسائل القانونية وغير القانونية عن طريق عصابات التهريب التي ‏تستغل الأزمات لتحقيق الأرباح، ليستسلم لمحاولاته البائسة مشاطراً سكان المدينة مصيرها ‏بعد أن نفد صبره. ‏
وهناك غران الذي يتصف بالعزيمة والإرادة الصلبة، كان يهتم بعمله وسط ‏الطاعون بصبر ومثابرة، وكان له الفضل الأكبر مع القاضي تارو بتحريك ‏الفرق التطوعية الصحية. والأب بانولو رجل الدِّين الذي كان يرى أن ‏الخلاص من الوباء بيد الله، وعلينا أن نعود الى جادة الصواب ونتقرب من ‏الله، وقد مات بالطاعون بعدما رفض أخذ العلاج لأنه يتعارض مع مبادئه ‏وايمانه بالله.

‏ نتائج إغلاق المدينة

تمثلت النتائج بالانفصال المفاجئ بين البشر الذين لم يستعدوا لمثل هذه الأزمات، ‏واعتقد الأقرباء بأنه مجرد حظر مؤقت، فاكتفوا ببعض المعانقات والوصايا ‏واثقين باللقاء الجميل بعد عدة أسابيع، «إنها الثقة الإنسانية البليدة» كما ‏وصفها الكاتب. أو يمكن أن نسميها «توق الإنسانية إلى الخلاص». ‏أصبحت المدينة منقطعة عن سائر أنحاء البلاد، لا مواصلات متوفرة، ‏ومُنعت المراسلات خوفاً من انتقال الوباء عبر الرسائل الورقية، وكانت ‏البرقيات الملجأ الوحيد للتواصل بين الأشخاص الذين ربطت بينهم سابقاً ‏روابط الصداقة والتفاهم والعاطفة والقُربة، وجعل الوباء الوحشي من ‏المواطنين كائنات خالية من العواطف الفردية كما وصفها الكاتب، وساد ‏شعور التضامن الإنساني. وصورت الرواية الأشخاص الذين استهانوا بالموقف، ‏فغلبت رغبتهم رؤية ذويهم كل حكمة.

التدابير الحكومية

بعد تفشي الوباء اتخذت تدابير تتعلق بسير المركبات والتموين، وفُرض ‏تقنين الكهرباء، وأغلقت المخازن أبوابها وقفز الوباء قفزات مفاجئة مع كل ‏يوم جديد، حيث ازداد عدد الضحايا، وازدادت معها التوجيهات الوقائية صرامة. عُزلت ‏بعض الأحياء المصابة داخل المدينة لمنع انتشار الوباء إلى وسطها، وهذا ‏ما جعل سكان بقية الأحياء يواسون أنفسهم بعبارة «هناك سجن أضيق من ‏سجني»، وأُلغيت مراسم الدفن للمرضى، بعد أن تركوا للموت بعيداً عن ‏ذويهم.

خوف الحكومة من التمرد ‏

رغم أن الاستياء لم يتفاقم، إلا أنّ الحكومة خشيت السيناريو الأسوأ، ‏فاتخذت تدابير احتياطية تلافياً لتمرد شعبي محتمل، فنشرت الصحف ‏قرارات تحدد منع الخروج وتنذر المخالفين بالسجن، وأخذت الدوريات ‏ورجال الحرس يطوفون في الشوارع الخالية في المدينة، وكان يمكن سماع ‏صوت حوافر الخيل على الأرض منذرة بقدوم الحرس، ومن وقت لآخر ‏سمعت أصوات طلقات نارية للإعدام الجماعي للقطط والكلاب.

الإشاعات ونقص المعدات

أشار ألبير كامو خلال الحوار الذي دار بين الطبيب ريو والصحفي رامبير ‏إلى وسائل مكافحة الطاعون التي لم تكن كافية، والحاجة الملحة للمعدات الطبية ‏والاستعانة بأطباء وموظفين صحيين من الخارج.
وانتشرت الإشاعات، وتداول المعلومات الكاذبة عن الوباء من خلال ‏شخصية كوتار التي تمتلئ جعبته بالحكايات الصحيحة والكاذبة، وروى ‏للطبيب ريو قصة رجل في المدينة بدت عليه ذات صباح عوارض ‏الطاعون، فخرج من بيته في هذيان الحمى وارتمى على أول امرأة التقاها، ‏فضمها إليه وهو يصيح أنه مصاب بالطاعون!
وصور الكاتب كيف يبحث الإنسان في ظل هذه الوحدة عن المساعدة ‏المعنوية من جار أو صديق يلجأ له لتعبير عمّا يجول بأفكاره وعواطفه ‏التي أصبحت جيّاشة بعد أن طُبخت طويلاً على نار الانتظار، أما ‏الطرف المستمع كما وصفه كامو يتصورها ألماً يُباع في الأسواق أو كآبة ‏متكررة فيأتي الجواب مزيفاً بالعواطف. ويُصور الكاتب لجوء أبطال الرواية ‏إلى بعضهم لتشارك خواطرهم وأسرارهم الشخصية.
وساهمت موجات الحر التي صاحبت شهر حزيران بقفزة لعدد الضحايا ‏متجاوزة رقم الـ 900 في أسبوع واحد، وهو الأمر الذي جعل الإحباط يُخيم ‏على المدينة، وانغلق السكان على أنفسهم، مغلقين أبوابهم ونوافذهم في وجه ‏الأسى القادم من البيوت المجاورة، وقال الكاتب: إن القسوة استولت على ‏القلوب بعد ذلك الذعر الطويل، وكأنها لغة الناس الطبيعية كما وصفها ‏الكاتب، أو الطبيعة الإنسانية القادرة على التعايش مع الأزمات!

الطاعون الأسود

في الحقيقة لم تعرف مدينة وهران وباء الطاعون في ذلك الوقت حسب بعض النقاد والإعلاميين، والطاعون الذي قصده كامو كان في فرنسا، ولكنه ليس وباء الطاعون بحد ذاته، بل السقوط المدوي لفرنسا أمام الغزو النازي الألماني بداية أربعينات القرن العشرين. وكتبت هذه الرواية بشكل خيالي _ رمزي، فالطاعون هنا يرمز إلى الفاشية التي هددت البشرية بالإبادة في ذلك الوقت.

معلومات إضافية

العدد رقم:
964
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 15:10