المسرح على خشبة الحياة!
أحمد علي أحمد علي

المسرح على خشبة الحياة!

ربما لا يغيب عن ذهن المتابع للنشاطات المسرحية كون أن معظمها -إن لم نقل كلّها- لها سِمة عامة، وهي تأريض التيار الكهربائي الشعبي، والشحن المعنوي العاطفي المرافق له تجاه الحرية و الأحلام المنشودة. بمعنى آخر، وكما يقال في اللهجة العاميّة، فإنها تعمل وفق آلية «التنفيس»، التي تسعى من خلالها إلى بثّ روح القبول والخضوع للواقع كما هو في قلب المشاهد وعقله وروحه.

المسرح والفنون الأخرى..

يمكن للمرء بسهولة أن يمسك رواية أو قصة قصيرة، أو قصيدة بين يديه ويبدأ بالقراءة وأن يستلذ بما يقرأ، فهو يعيش تجربة جمالية، لكن فارقاً نوعياً سيحدث عند حضور مسرحية ما، وهو كون ذلك الفرد لا يعيش تجربة جمالية فقط، بل ويعيش أيضاً تجربة تفكيكية تشحذ وعيه، وتُظهِر العلاقة بين الخطاب الفني (النص المكتوب) وشروط إنتاجه المادية، ولهذه المسألة أهمية بالغة، فهي تسمح شيئاً فشيئاً وعلى مستوى الوعي الشعبي العام بتكوين نظرة تفكيكية تتجاوز طريقة التعاطي المثالية مع الفن؛ وكأنه يجري في الهواء، وكأن المبدع كائن أثيري لا جسد له!

متى تولد الظاهرة المسرحية؟

يتميز المسرح بقدرته العالية على خلخلة الرؤية الموروثة والمعتادة للعالم، وذلك بحكم قيامه على علامات عدّة، خلافاً لأنواع الأدب التي تقوم على العلامات اللغوية فقط، وقدرة الخلخلة هذه لا تتعلق بإرادة الكاتب أو المخرج أو الممثلين أو حتى الجمهور، بل هي شرط ضروري لوجود الظاهرة المسرحية، لأنها هي ذاتها وليدة الخلخلة، فهي الابنة غير الشرعية لأي نظام اقتصادي-اجتماعي، ولذلك فهي قوة مناوئة شأنها شأن الأشكال الفنية الأخرى، لا تنشأ أو تتطور بقرار فوقي، بل تأتي حصيلة لتطور مجمل الواقع الثقافي من خلال ارتباطه بحركة الواقع الاقتصادي ككل بجميع جوانبه ومعطياته التاريخية.
تولد الظاهرة المسرحية دوماً من رحم فترات الانتقال والتحول التاريخي كالتي نعيشها الآن بصورة جليّة. وحين تبدأ في مشاغبة بنية الحكم القائمة وتحديها، تبدأ محاولات مقاومتها وتكبيلها وتقليم أظافرها من خلال الحصار الاقتصادي والإداري والرقابي والإعلامي وحتى النقدي؛ الذي يأخذ شكل الاحتواء والتزييف عن طريق خلق أطر نظرية لتفسير الظاهرة المسرحية وتقييمها، بحيث يأتي التفسير مدعماً لتلك البنية القائمة، وبذلك تحيطها بجدار سميك من الكلام الذي يخفي الطبيعة الثورية للمسرح كما فعلت مثلاً نظرية أرسطو بالمسرح اليوناني، فما إن انطلق العقل اليوناني القديم من الأساطير والغيبيات إلى رحاب الفكر الإنساني، ومن عالم الطقس إلى عالم المسرح، وبدأ المسرح يجادل ويصارع بدرجات متفاوتة من الحدة والوضوح الأطر الفكرية القديمة ويسعى إلى تحرير إرادة الفعل الإنساني من فكرة الجبرية، حتى ظهر أرسطو بنظريته الجمالية التي (تعكس) – كما أشار بريخت- «عقيدة إيدولوجية فحواها أن العالم معطى ثابت لا يمكن تغييره، وأن وظيفة المسرح هي تقديم تسلية تخديرية»..

حياة الإنسان في المسرح..

يعي الإنسان في المسرح في كل لحظة جسده من خلال تلامسه مع من يجاوره، كما يعي جسدية الممثلين، ويستطيع بنظرة أن يقدّر ميزانية العرض من خلال الملابس والديكور، كما يعي وجود المؤسسة الرقابية من خلال جنود حراسة المكان، وقد يذكّره انقطاع التيار الكهربائي مثلاً بالحالة الاقتصادية العامة للبلاد، وربما يلاحظ ويتنبّه إلى قلة عدد النساء بين الجمهور، فيتذكر العادات والتقاليد التي تكبّل حركة المرأة في مجتمعه، ويستطيع أيضاً من خلال ملابس الجمهور أن يحدد مواقعهم الاجتماعية ودرجة ثرائهم أو فقرهم، وقد يوقظه من الاستغراق في العرض صراخ طفل رضيع فيأسى لحال الأطفال في بلاده، ذلك كلّه يؤكد كون الإنسان بالفعل يعيش تجربة تفكيكية تستنفر فيها كل قواه وحواسه...

دور الإنسان في المسرح..

يمكن وصف المسرح بكونه تجمعاً ديمقراطياً يمارس الإنسان فيه حريته في كل لحظة؛ حرية الموافقة والاعتراض، الاستحسان أو الاستياء، التصفيق أو الصفير، البقاء أو الانصراف، مع وجود إمكانية حقيقية للعمل الجماعي على إيقاف التجربة المسرحية كلّها..
وقد يقول قائل: إن مُشاهِد «التكنودراما» يستطيع أن يغلق جهاز «التليفزيون» أو الفيديو في حال لم يعجبه ما يُعرض، وبإمكانه أن يغادر قاعة العرض السينمائي لعرض سينمائي ما لو أراد، لكن الوضع مختلف تماماً في المسرح؛ فانسحاب متفرج أو عدد من المتفرجين قد لا يوقف عرضاً مسرحياً، لكنه رغم ذلك يؤثر في مساره تأثيراً واضحاً فهو يؤثر في المتفرجين الباقين ويجعلهم يتساءلون ولو للحظة واحدة عن أسباب هذا الانصراف، وقد يكسبهم هذا نوعاً من الشك في جودة العرض فيبدؤون برؤيته بمنظور نقدي جديد..
العرض المسرحي تجربة حيّة متغيرة تتجدد من يوم إلى يوم، انسحاب الحضور له أثر، وانسحاب أحد أطراف الحوار كفيل بإيقاف التجربة كلّها، وقد حدث هذا فعلاً ذات مرة.. أما في السينما مثلاً، فقد ينسحب كل المشاهدين دون أن يتوقف هذا الفعل الشريطي السينمائي الدائر في ديمومة لا تاريخية، وسلطوية. لأن الفيلم هو في النهاية مجموعة من الصور الثابتة التي لا يمكن أن ينالها التاريخ بأي تعديل أو تغيير ولا أن تنالها إرادة الجمهور الحاضر.. الفيلم هو أسطورة الثبات التي تتكرر من يوم إلى يوم بعيداً عن واقع المتفرج الحيّ، أسطورة تحيا مجازياً في فضاء المطلق!

صراع بين إنسان وإنسان!

المسرح صراع، ولكنه ليس صراعاً بين أفكار مجردة، بل صراع بين إنسان وإنسان. وهو ليس صراعاً ناجماً عن طبيعة شريرة وطبيعة خيّرة، بل عن رؤية واضحة للظروف المحيطة بكل منهما. ولهذا لم يعد من الضروري دائماً أن نقدم الرأسمالي أو الإقطاعي أو جندي الاحتلال بصورة كاريكاتيرية كريهة، فنحن لا نقف ضده بسبب صفاته الشخصية كالبخل والجشع أو السكر أو الاعتداء على النساء، نحن نقف ضده حتى حين يبدو كشخص لطيفٍ ورحيمٍ. إننا نقف ضده بسبب وضعه وعلاقته بنا: علاقة الاستغلال والاضطهاد والقمع بكافة وجوهها. وهذا النمط من التعاطي مع الأمر له تأثير سلبي جداً لأنه يبعد الجمهور عن الاهتمام بالعلاقة الحقيقية مع خصمهم.
علينا ألّا نورّط أحداً بقبول الحياة كما هي لأن «الحياة سيئة كما هي وستظل سيئة طالما هناك من يمارس الضغط على الآخرين- بريخت».

معلومات إضافية

العدد رقم:
959
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 15:20