طرح «مهزوم» لعقل «مأزوم»
إن أغلب القوى السّياسية التغييرية تُسقِط من رؤيتها العديد من القضايا التي تسمح بتحديد طبيعة الأزمة العميقة التاريخية للرأسمالية، كأزمة نمط الحياة القائم على الاستهلاك والعمل المأجور، المؤسِّس لكل تبعات الإنهيار المادي والإغتراب المعنوي/الروحي. وإسقاط هذا الجانب له تبعات سياسية مهمة، فهو إن تمّ تجاهله يؤدي إلى أخطاء سياسية عميقة منها: تخفيض سقف الهدف والطرح، والتحوُّل من النظرة الشاملة للمجتمع إلى نظرة اقتصادوية وحيدة الجانب، لا تطال مجمل الطاقة الاجتماعية الكامنة القادرة على أن تحمل مشروعاً جذرياً شاملاً.
التطرّف «السياسوي»
هذا الإسقاط هو التخلّي الضمني عن مقولات منهجية ماركسية- لينينيّة أهمّها قراءة الجديد التاريخي لتطوّر النظام العالمي للإمبريالية في شموليّته. إنه التخلِّي عن مفهوم التمرحل والتطوّر في الرأسمالية في طورها الإمبريالي. فعلى الرغم من محاولة أغلب قوى اليسار الماركسي عالمياً على «تحليل» الصراع، إلّا أنها في تحليلها هذا تصرّ على البعد السياسي الفوقي، ولا تزال تعتمد على مقولات تنتمي إلى مراحل سابقة، وما تقوم به فقط هو إعادة ترتيب للعناصر السابقة في خطابها. وهي بذلك تخطئ ليس فقط في فهم قوانين الصراع السياسي المتحوّلة، بل يمنعها ذلك من رسم الحدود التاريخية للإمبريالية. لأن إسقاط «التّمرُحل» يؤبد العلاقات القائمة في الزمن، فهذا الزمن بالنسبة لهذا العقل الجامد هو زمن متماثل لا جديد فيه. هذا مثلاً يجعلها تفصل بين الإمبريالية والرأسمالية، وهذا نابع من وهم فكري هو نتيجة الانقسام السياسي في القرن الماضي بين قوى الاشتراكية وقوى الإمبريالية. أي إن ما يقوم به هذا الفكر المثالي «اليساري- الماركسي» هو مماثلة العلاقات الإمبريالية مع الدول نفسها، وتصير بالنسبة له الإمبريالية هي دولة أو مجموعة دول، بينما هي بالفعل بنية علاقات تتمثل فوقياً بأطر سياسية كالدّول. وعلى الرغم من العبارات الاقتصادية في هذا التحليل، إلّا أنه يُبقي على العلاقة الإمبريالية علاقة «سياسية خارجية» وهذا ما اعتبره لينين في نصّه: «بصدد الكاريكاتور عن الماركسية، وبصدد (الاقتصادية الإمبريالية) أنه: «تعريف سياسي صرف، سياسي فقط للإمبريالية... يتملّص من التحليل الاقتصادي»، واعتبره «يخلط بين جوهر الإمبريالية الاقتصادي وبين اتجاهاتها السياسية»، وهذا الفهم المغلوط تكرار لفهم كاوتسكي الذي نقضه لينين باعتبار الإمبريالية «مجرد نظام للسياسة الخارجية». وهذا التماثل يجعل هذه القوى غير قادرة على فهم موقع الدول الاشتراكية السابقة في المعادلة (الصين وروسيا تحديداً)، فتظهر هذه الدّول بالنسبة لهذا الفكر كرأسماليات خارج الإمبريالية، لا كدول ضمن البنية الإمبريالية وخاضعة لقوانينها الاقتصادية «الاحتكارية».
التطرّف «الاقتصادوي»
هذا «التطرّف السياسوي» يؤدي بالمقابل إلى «تطرّف اقتصادوي»، فالفصل بين المستوى السياسي والمستوى الاقتصادي يجعل من أغلب قوى اليسار، التي لا زالت غير قادرة على التقاط قانونية المرحلة الجديدة، يجعلها تتجاهل تطور التناقض في البنية الاقتصادية للرأسمالية، كونها لا زالت تنطلق في تحليلها من المستوى السياسي الفوقي. وكونها كذلك، فهي تنفي حتى تطور التناقض التحتي الاقتصادي في البنية الإمبريالية، ما ينتج عنها نفي لتطور التناقض ضمن الرأسمالية نفسها. فالتعريف «السياسي الصرف» للإمبريالية يعني تلقائياً الفصل بين الرأسمالية كبنية وبين الإمبريالية. وكون الإمبريالية لا تتطور بنيوياً يعني أنها تتجدد بلا حدود، وهكذا يسقط تلقائياً مفهوم تراجع الإمبريالية التاريخي، ويعني تالياً تخفيض السقف السياسي للصراع ضد الإمبريالية، ويفقِد الصراع معها طابعه الثوري، أي نفي احتمالية استنفادها لأفقها التاريخي. هذا بذاته يسقط نقيض الإمبريالية من الاحتمال، أي الاشتراكية. وهكذا يسقط مجمل البناء الفكري والسياسي للماركسية- اللينينية. هكذا ينحصر الصراع مع الإمبريالية بتغييب طرح نقيض الرأسمالية كبنية سياسية-اقتصادية بديلة. هذا هو «التطرف الاقتصادوي» عبر نفي التحول السياسي نفسه، وتخفيض سقف الصراع السياسي، وتفريغ الممارسة من جوهرها السياسي الثوري، والتركيز على تعديلات في البنية الرأسمالية نفسها على مستوى الاقتصاد، وليس على مستوى الإنتاج. وهنا أصل القناعة الضمنية لهذا الخط الاقتصادوي بعدم القدرة على القطع مع الرأسمالية اليوم. وهنا يطل لينين مرة جديدة، عندما اعتبر أن الصراع مع الإمبريالية هو ذاته صراع مع الرأسمالية كشكل حضور العلاقات الإمبريالية في دولة ما. أي ما يمكن التعبير عنه بالـ «الفهم الداخلي» للإمبريالية بدل «الفهم الخارجي» الذي نقده لينين سابقاً.
تبعات أُخرى لهذا الخط
إن نفي التطوُّر في البنية الرأسمالية، والفصل بين الاقتصادي والسياسي، ينفي تطور علاقة الإنسان الفرد بالمجتمع، ويحافظ بالتالي على علاقة اقتصادية ينتج عنها معاناة مادية (مباشرة) فقط تشبه المعاناة التي سادت في المرحلة الثورية الأولى في القرن الماضي. فالخط الاقتصادوي ينفي مفهوم «نمط الحياة الرأسمالي» وتأثيره الشامل على الإنسان الفرد وذاته المأزومة، وينفي أزمة هذا النمط الشامل، ما يعني نفي ضرورة نمط حياة جديد. فالإنسان اليوم يعيش أزمة مركّبة مادية ومعنوية. وعلى الرّغم من حدّة الجانب المادي من الأزمة كالأمن والخوف المباشر على الحياة ربطاً بالأمراض والأوبئة والحرب، كما قضية الجوع، إلّا أنّ الجانب المعنوي حاضرٌ إما مباشرةً أو ضمنياً حسب ظروف كلِّ بلد والصراع الدائر فيه.
والمعنوي هذا لا يمكن حلّه عبر تحولات اقتصادية كميّة، بل عبر تحولات نوعيّة تطال القاعدة المؤسسة للرأسمالية، أي العمل المأجور والاستهلاك، والانتقال إلى الاشتراكية بما هي الإدارة الجماعية الشعبية للمجتمع، والملكية الجماعية للثروة، أي التحول في جدول الأعمال الليبرالي نفسه. فقط أخبرني عاملٌ شاب في مستودع لشركة مكسّرات: «لا أحسب فقط راتبي الشهري الذي لا يكفيني، بل إنني أحس بتفاهة حياتي التي تضيع مني، أحس نفسي بلا هدف، وغارق في روتين قاتل يومي».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 956