الاستهلاك.. رعب من نوع آخر!
لا يكلفك الاسترخاء أمام التلفاز شيئاً. فجأة، يتوقف برنامجك أو مسلسلك أو فيلمك المفضل الذي كنت تتابعه، ليبدأ فاصل إعلاني..! لا شيء جديد في ما سبق. إنه يتكرر ملايين المرات، وحتى وإن كنت أكثر حصافة من غيرك، سيمر عليك الأمر بكل تأكيد وكأن شيئاً لم يكن.
خلقت الرأسمالية في تطورها أشكالاً متعددة ودرجات مختلفة من أنواع «الرعب» في أعماق الإنسان المعاصر. لعل «الرعب النووي» يقع في أعلى المستويات، ولكن هذا لم يمنع خطورة بقية الأنواع الأخرى.
الشعور الدائم «بالحاجة»
بعيداً عن أفلام الرعب، يتعرض الناس يومياً لـ«رعب» دائم وغير مرئي. إنه رعب «الحاجة للاستهلاك». ما من شك بأن التطور الحضاري يخلق باستمرار حاجات متزايدة عند البشر، ولكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: من يحدد نوع وكم الحاجات المطلوب تلبيتها، وكيف تُلبَّى؟
خلقت الرأسمالية في تطورها ذلك الشعور الدائم عند الإنسان المعاصر «بالحاجة»، في محاولة لإعادة صياغة هويته الاجتماعية والشخصية، بحيث يضمن لها الاستمرار والربح الأعلى. جرى الترويج لفكرة مفادها أن النمط الاستهلاكي هو الذي يشكل هوية الأفراد والمجتمعات لسنوات. وعلى هذا الأساس، جرى العمل على تحويل الإنسان، «المواطن في مجتمع»، إلى «فرد مستهلك»، بمواصفات محددة قامت برسمها وسائل الإعلام بكل براعة، فهو نافذ الصبر، وسريع الإحساس بالملل، يتنقل بين الأشياء والسلع بسرعة كبيرة، لا يتمسك بشيء لفترة طويلة، وبالتالي يربطه بالسلعة نوع من الالتزام المؤقت، والذي سرعان ما يزول، بحيث تحلُّ الرغبة في الاستهلاك محل الحاجة الحقيقية للسلعة. وبدلاً من أن تشبع السلعة «الحاجة الحقيقية» للمستهلك، يصبح على السلعة إشباع «رغبة» المستهلك، والأفضل أن يكون هذا الإشباع مؤقتاً وسريعاً، لتتكون داخل المستهلك «رغبة» جديدة تجاه سلعة جديدة.
في المجتمع الرأسمالي الغربي، تقوم وسائل الإعلام والدعاية والمؤسسات الثقافية الرأسمالية بتحديد ما نحن بحاجة إليه، وتحديد المعايير اللازمة لهذه الحاجات من خلال الترويج لنمط استهلاك محدد يخدم مموليه الكبار. وعليه جرت صناعة نموذج (مثال) لكل شيء. ليس المطلوب من الإنسان أن يفكر بحاجاته، بل أن يتابع المزيد والمزيد مما تقدمه له وسائل الإعلام ومؤسساته. وهي لا تترك له شيئاً، تدخل في أدق التفاصيل، الطعام، والملبس، وسائل النقل والاتصالات والهواتف المحمولة والعطور.. إلى مزيلات الشعر وأدوات الحلاقة.. إلخ. والمشترك بين هذه الاشياء في عالم الدعاية والإعلان هو الحديث عن الرفاهية، «رفاهية» وهمية تحققها بشرائك للمنتج المعلن عنه.
يكمن الهدف من هذه العملية خلق صورة اجتماعية وهمية للفرد يحددها الإعلام من خلال تحديد الذوق العام. واستخدم لذلك أدوات وموارد هائلة ووظف فيها أغلب رموز الثقافة من مشاهير الفنانين والفنانات في هوليود إلى نجوم الرياضة وحتى الشخصيات الخيالية في قصص وحكايات الأطفال والقصص المصورة. وتقوم هذه العملية على تسويق صورة مزيفة عن هذه الشخصية أو تلك من «المشاهير والنجوم» لأغراض دعائية بعيدة عن حقيقتهم وحياتهم الفعلية، بحيث تصبح تلك «الصورة المزيفة» هي المعيار في تحديد هوية الأفراد داخل المجتمع.
وهم الاختيار
لا تكتفي الدعاية بأن تتدخل بكل تفاصيل الحياة اليومية للمتلقي، بل تقدم له وهماً بقدرته على الاختيار، فغالباً ما يظهر المنتج المعلن عنه مقابل منتج آخر. هنا يجري الترويج من خلال المقارنة، مرفقة بعبارات مثل: «لا تحتار، ما عليك إلا تختار. أو لسنا الوحيدين ولكننا الأفضل» وغيرها. تسعى شركات الترويج والإعلان، أياً كانت الطريقة التي تستخدمها، إلى إقناع المتلقي ليس فقط بوهم القدرة على الاختيار، بغضّ النظر عن ظرفه الاقتصادي. بل بضرورة شراء المنتج حتى يحقق مستوى اجتماعياً معيناً من القبول الذي يفترضه الإعلان، محدداً بذلك هويته الاجتماعية. لقد جرى ربط مفهوم الهوية الشخصية للفرد وموقعه الاجتماعي ووسائل إدراكه الذاتي بقيم الاستهلاك والإنفاق.
ضرورات الناس
الحالة الاجتماعية للبشر تستلزم أن يشعر الإنسان برابطة تجمعه مع بقية أقرانه من الناس وعادة ما تظهر هذه العلاقة من خلال مجموعة من البنى والتنظيمات الاجتماعية (عائلة، مدرسة، أحياء، مؤسسات، نقابة،.. إلخ). إنَّ استبدال مفهوم المواطنين بمفهوم المستهلكين، عملّياً يُحوّل «المجتمع» إلى مفهوم «مراكز التسوق»، فتكون النتيجة مجتمعاً مفككاً مؤلفاً من أفراد يعانون الاغتراب، لا يرتبطون بأية التزامات، تائهين، ممزقي الشخصية، ومحرومين من الوعي التاريخي الجمعي، ويشعرون نتيجة ذلك بهبوط في معنوياتهم وعجزهم من الناحية الاجتماعية.
لقد ولّد النظام الرأسمالي، ويُولِّد بشكل متزايد، أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية هائلة. ولم يعد النضال من أجل التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي مسألة افتراضيةً تخص السياسيين وحدهم، لقد بات ضرورة تخص أفراد هذا الكوكب بشكل مباشر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 942