الفن.. الشكل والمحتوى قبيل الرأسمالية
حصل الفن على استقلاليته النسبية مع بلوغ العمل درجةً عاليةً من التقسيم بين العضلي والفكري، وتبلور قوانينه وخصائصه الداخلية، ونشوء فئة الفنانين الممارسين للفن كعمل زبائنُه الأساسيون هم في البلاطات المترفة.
لقد خضع الفن شأنه شأن جميع عناصر البنى الفوقية التي تمايزت وبلورت خصائصها الداخلية إلى سلطة الدولة المَلَكية المهيبة الحكيمة خلال المراحل الأخيرة من الإقطاعية. وفَقّدَ عفوية المراحل السابقة. وبذلك بسطت الدولة سيطرتها على الحياة الروحية والثقافية والأخلاقية والفلسفية.. في المجتمع.
شَكْلُ ومحتوى الفن في مراحل الإقطاعية الأخيرة خلال القرون 16 و17و18السابقة على الرأسمالية، هو ما سنحاول إلقاء بعض الضوء عليه في مقالنا اليوم:
-1-
توطَّدت البرجوازية في الشمال الأوروبي (فرنسا- ألمانيا- هولندا-..) في ظروف السيادة الملكية المطلقة، وهو ما حدَّد الطابع الثقافي المختلف في نهضته عنه في إيطاليا، ومتمايزاً كذلك بالخصائص القومية لكل شعب من الشعوب.
فقد شهدت المرحلة الأخيرة من الإقطاع، بروز الدولة الملَكيِّة ذات السلطة المركزية المطلقة. وهي إلى جانب كونها ملكيَّات إقطاعية، فإنها رعت استقلالية المدن الناشئة دعماً للمانيفكتورات والتجارة، وبالتالي طال دعمها البرجوازية المستقلة في مدنها عن الإقطاعيات، والآخذة بالتطور في قلب الملَكيَّة. لقد كانت البرجوازية بتوسيع سوقها، وتطوير وسائل إنتاجها تساعد على مركزة السلطة بيد الملَكية، وبالتالي نشوء الدول القومية، رغم اعتمادها على إفلاس المنتجين الصغار، والبدء بالتوسع الرأسمالي نحو المستعمرات الخارجية. وهو ما انعكس على البنية الأخلاقية لدى تلك الطبقة الساعية إلى تحقيق المكاسب ومراكمة رأس المال.
إن ما مَّيز فن المرحلة الأخيرة من الإقطاعية الملكية، عن فنون المراحل السابقة، هو في كون الطبقات الحاكمة، ارتفعت مبتعدةً عن الشعب، ومعها أصبح الفن في خدمة الزبون- السلطة وإيديولوجيتها. بعكس المراحل السابقة من عصر النهضة، حين كان الصراع السياسي ذاته يدل على عدم وجود حدود بين الفئات الحاكمة عن الشعب؛ إذ كان المجتمع بأكمله يساهم في صياغة الحياة السياسية، وبالتالي كانت مفاهيمه واحدة، وبنيته واحدة، ونظرته بالتالي إلى الفن واحدة.
فإنتاج المَلَكيَّات تمايزاً طبقياً حاداً، انعكس تمايزاً بين الطبقات في المفاهيم والعواطف واللغة الفنية العاطفية الشاعرية الواحدة، فنشأت لغتان فنيتان ضمن حدود الدولة القومية الواحدة، (تمثل فرنسا ميداناً واضحاً لذلك). كما أن الحكم المطلق لا يمكن أن يطور حضارةً ديمقراطية، وهو ما ينعكس عميقاً على الثقافة الفنية وتطورها حتى في إطارها الشعبي. ولعل إسبانيا تمثل استثناءً بسبب خوضها حروب الاستقلال والتحرير التي جعلت من إيديولوجيتها وفنها شعبي الطابع (لوبي دي فيغا- سيرفانتس-..)، رغم الحكم شديد الرجعية.
غير أنه بسبب من تمثيل الملكية المطلقة للدولة القومية الموحدة، فإنَّ التيارات الفّنيّة كانت تتخذ الطابع الرسمي للدولة. وفي هذه المرحلة ظهر للمرة الأولى الصدام بين الفن والواقع الاجتماعي السائد مؤشراً على واقعيته، وكلَّما تقبَّل الفن الظلم الاجتماعي السائد، قلَّت قدرته على التعبير، واتجه نحو التكلف.
-2-
لهذه المرحلة اتجاهان رئيسان يخضعان لإيديولوجيات الطبقة السائدة:
الأول: فن الباروك الذي تطور بشكلٍ أساس تحت سلطة الإقطاع الديني، خصوصاً في إيطاليا. وتميز بالتكلف والاصطناع بشكلٍ عبَّر عن أزمة المبدأ الإنساني، والفن الذي لا جذور شعبية له؛ إذ خَدَمَ رجالات الدِّين والنبلاء. وفيه ظهر العمار المترف المتكلف (حدائق قصر فيرساي وكنائس ذلك العهد)، والموسيقى النبيلة (الكونشرتو- السوناتا- ..) وموسيقييها (باخ- فيفالدي- هاندل-..)، والمنحوتات شديدة الضخامة،.. بشكلٍ يعكس سلطة الدِّين وقوة الدولة النبيلة. اتجه الباروك أخيراً باتجاه الروكوكو الحسي المترف الذي اندثر أخيراً مع الثورة الفرنسية. ورغم ذلك، فقد مثل شكلاً من أشكال تملك العالم جمالياً، والقدرة على التقاط حركة الحياة القلقة الخالدة.
الثاني: الكلاسيكية التي اعتمدتها السلطات الحاكمة للمزاوجة بين الفن الشعبي والفن الأرستقراطي في محاولة منها للتعبير عن تمثيلها لحالة التوزان والوحدة في البلاد. غير أنَّ اقتراب الكلاسيكية من الفن الشعبي افتقر إلى العفوية البادية على فنون العصور السابقة. إضافةً إلى أنه، على الرغم من عدم تغييب الأساس الاجتماعي للكلاسيكية، فإن سطوة الدولة غلبت على الفن، وهو ما خلق فيه ازدواجيةً في التمثيل؛ فوقع بين مطرقة تمثيله لصدقه المعرفي العفوي، وسندان تمثيله للزبون-السلطة التي تعمل على تكييف المثل الجمالية للمجتمع مع أهدافها باستخدام العامل- الفنان، شأنه شأن عناصر البنية الفوقية الأخرى (كالعلم مثلاً).
لم يعرف الفن في العصور السابقة هذا التزلف، والتضحية بالحقيقة لقاء نصف الحقيقة. لقد كان الفن متشابكاً ومنصهراً بالحياة الاجتماعية، وغير منفصل عن مهامِّه ووظائفه الاجتماعية. لقد كان تعبيراً عن الحياة ذاتها بكافة جوانبها الدينية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية.. ووليدَ الحياة الشرعي ناشئاً ونامياً بشكلٍ طبيعي رغم إمكاناته المحدودة، ووسائل تعبيره المتواضعة، ومواضيعه الخيالية أحياناً. كان واقعياً بشكلٍ طبيعي غير متصنَّع.
كانت إحدى نتائج الكلاسيكية إرساء البنية العقلانية (المنسجمة مع الحياة)، وبلورة الوعي الجمالي القومي في الوعي الشعبي (فرنسا مثلاً وفنانوها راسين وموليير وكلود لورين ..)، وظهرت منعكسات ذلك لاحقاً.
مثَّلت جمهورية هولاندا البرجوازية خرقاً للمشهد العام؛ فالبرجوازية غير المتسيدة المرتبطة بالثورة على الاحتلال الإسباني وسلطة الإقطاع، تكون أكثر الفئات الاجتماعية تأهيلاً لتمثيل القوى التقدمية في المجتمع في تلك الفترة التاريخية المحددة، والتعبير عن المثل الجمالية الإنسانية في الفن. وفي الفن الهولندي، ظهر للمرة الأولى الإنسان البسيط العادي في الخانات والأكواخ وحول الموائد..، ولدى توطد أركان السلطة البرجوازية، تراجعت واقعية فنها وتمثيله لمحتوى الحياة تلك.
-3-
في تلك الفترة التاريخية، لاحت الملامح الأولى لظهور الاتجاهات غير الواقعية المتعمَّدة في الفن. حين لم يعد للمجتمع لغة فنية واحدة، وإنما لغتان. فنشوء فئة الفنانين الذين لا يملكون سوى فنهم سلعةً للبيع رغم انفتاح آفاق أخرى واسعة ناتجة عن تكديس الخبرات. إضافةً إلى وجود الفن مستقلاً بذاته نسبياً منقطعاً عن الحِرف رغم كون ذلك تقدماً، قدَّم للفن فرصةً للانتهال من منابعه الخاصة، وليس من منابع الحياة. وهو ما مهد لنشوء نظرية (الفن للفن) في المراحل اللاحقة والذي تبنَّته التيارات الفنية التي تدرك انحطاط المثل الجمالية للطبقات السائدة في المجتمع، لكنها لا تريد أن تتخذ دوراً معارضاً لها.
كما بحثت بعض التيارات في الماضي عائدةً إلى المثل الجمالية لفنون العصور السابقة الإغريقية أو الرومانية، وأحياناً للعصور الوسطى والنهضة.. حين كان الفن ومثله الجمالية وحدة فنية ترتبط بالعام.. بالحياة. وإذ يعبِّر عادةً الاهتمامُ بالحضارات القديمة عن تطوِّرٍ للحضارة الحديثة، غير أن اهتمام هذه التيارات بالماضي في مراحل الانحطاط الأخلاقي تلك، هو وعيٌ بعجز الطبقات السائدة عن ريادة الأمة بمثلها الجمالية والأخلاقية..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 942