سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

الفن.. بين الوظيفة الوهمية والفعلية

يُقدَّم حرص الناس على قضاء أوقات فراغهم في ممارسة نشاطٍ فني (المطالعة- الكتابة- الرسم- تعلم الموسيقا والاستماع إليها..)، على أنها تفريغ للشحن السلبي المتراكم في النفس البشرية خلال سعيها وراء أسباب العيش، ومحاولتها تحصيل المتع الجمالية التي تحقق الرضا اللحظي، والخصوصية الفنية لها قبل غرقها مجدداً في مشاغل الحياة. وبغض النظر عن صحة هذا التفسير، غير أنه يظل جزئيةً ضمن الجزئيات الأخرى التي تشكل بمجموعها تفسيراً عاماً واقعياً لذلك الحرص أو الرغبة.

والملاحظ اليوم غلبة الطابع المباشر على بعض الأشكال الفنية (السينما والتلفزيون..)، بينما تغرق بعض أشكاله الأخرى (الشعر والأدب..) في عوالم الرموز الذاتية، وهو ما يتفق مع التفسير الجزئي أعلاه. غير أن واقع الحال مختلف لدى تقديم التفسير العام للحاجة البشرية للنشاط الفني؛ فالمتعة الجمالية لا تتحقق دون استيعاب لمحتوى الأعمال فنياً وفكرياً، وخصوصاً المحتوى العام.
هذا ما سنحاول إلقاء بعض الضوء عليه في مقالنا:
تتحقق المتعة أو المعاناة الجمالية بإدراك تعقيد موضوع العمل الفني الذي- إلى جانب الإيديولوجيا في محتواه (الأفكار والتصورّات..)، والانطباعات المتشكلة تجاهه لجهة الإخراج واللون والضوء والتقنية..- يعكس صوراً واقعيةً من الحياة الإنسانية، وهي تضم التكوين الأخلاقي والنفسي للشخوص (الفنان- شخوص الموضوع الفني- المتلقي- ..) خلال فترة تاريخية محددة. وبالتالي، لا يمكن فصل جزئية من انطباعات العمل الفني لدى المتلقي عن مجمل الانطباعات التي تشكِّل بمجملها إدراكه واستيعابه لذلك العمل. كما لا يمكن فصل محتوى العمل الفني عن الموقف تجاهه، وتجاه العواطف والأفكار الإنسانية المتصادمة فيه، وتجاه الفنان وموقفه المتجسد في العمل الفني.
وحيث إن الانطباعات، ليست ناتجة عن رؤية الفنان ومعالجته للموضوع وحسب، فهي ترتبط كذلك بالتداعيات الوجدانية والأخلاقية والفكرية لدى المتلقي، فإنه تبرز أهمية المعالجة والموقف الإنساني للفنان النابع من الإيديولوجيا التي يتمثلها بوعي أو لا وعي. وبالتالي، تبرز قدرة الفن على هز العواطف والقناعات الإنسانية للمتلقي، وتغيير إيديولوجيا الطبقات السائدة (القناعة بأبدية التمايز الطبقي، وفساد الشعب، ومظلومية النخب السياسية والثقافية حياله، ..) لصالح إيديولوجيا الطبقات المستغلَّة التي يتمثلها الفنان الملتزم القادر على النفاذ إلى جوهر الظواهر في الحياة، وهو ما يتطلب منه بذلاً روحياً وفكرياً وعاطفياً، كما يتطلب من المتلقي السخاءَ في التلقي الروحي والفكري والعاطفي، وعلاقةً شديدة الثقة بالفن. والملاحَظ اليوم، تعطش الشعوب لفن ينتمي إليها ويقدم إجابات عن تساؤلاتها الكبرى أمام إصرار سياسات الطبقات السائدة على تهميش الفن ودوره ومؤسساته وفنانيه، بما يهز تلك الثقة الضرورية في بناء علاقة الفن بأبناء المجتمع.

الفن والإنسان والمجتمع

لا يمكن الأخذ بادعاءات نظريات (الفن للفن) في اقتصار أثر الفن على الذوق الجمالي وحسب، فمحتوى الفن غير قابل للفصم فيما يتعلق بوجهة النظر نحو العالم، والموقف منه، وبالأخلاق، والذوق الجمالي. والأعمال الفنية المدرَجة تحت هذه النظريات لا ينحصر أثرها على الذوق الجمالي فقط كما تدَّعي، بل على المعنى الجوهري للأخلاق والتركيب النفسي للناس، لجهة البحث عن الحلول الفردية للمشاكل والقضايا الاجتماعية الكبرى، بما يعزز الانعزالية والفردية والروح الأنانية، وبالتالي دوام الواقع الحالي.
فالفن يتناول الإنسان موضوعاً أساساً له مميزاته الفردية والجماعية، وكل عملٍ فنيٍّ هو موقف اجتماعي للفنان، ويعبّر من خلاله بشكلٍ مباشر أو غير مباشر عن مثله العليا المنتمية إلى واقع محدد بفترة تاريخية، وهي تحمل إيديولوجيا ومبادئ حقوقية وفلسفية ودينية واجتماعية وسياسية وأخلاقية محددة بطابع القوى المسيطرة في تلك الفترة.
وحيث إن الفن خيالٌ يستند إلى الواقع، تتمثل فيه حِكم الحياة وتجاربها وتجارب الشعوب الكبرى عبر أجيالها المختلفة خلال تاريخها الطويل، فإن هذا الخيال يحتّم شكلاً من أشكال الاستقلالية النسبية التي تُهيئ جاذبيةً خاصةً وقدرةً على إيقاظ وخلق أفكار جديدة تدعم المثل الإنسانية العليا، وهو ما يجعله كذلك مجالاً مفتوحاً للطبقات السائدة لبث أفكارها وتصوراتها وحلولها المزيفة والمحتقِرة للمبادئ والقيم التي انطلق منها المناضلون حول العالم، وعبر التاريخ الإنساني الطويل الحافل بالنضالات للقضاء على الظلم الاجتماعي.

الجمال والمعرفة

إن ما يعطي الفن جماليته، وأثره البليغ يكمن في غياب أثر لحظة التلقي، وبقاء أثر المضمون الذي يكشف زوايا وجوانب مختلفة من الحياة، والأسباب الواقعية للواقع المعاش، وحلول القضايا المصيرية التي تظل ماثلةً في الوعي والضمير الاجتماعيين حتى أزوف لحظة التغيير النوعي، استناداً إلى كشف العام بين قضايا الشعوب حول العالم، والخاص لدى شعبٍ بعينه، له بيئته وطباعه ونظمه الاجتماعية الخاصة وشخصياته التاريخية الخارجة من رحم تلك البيئة، لتقترح حلولاً جذرية تتعلق بالناس جميعهم، وليس بالبطل كذاتٍ فردية.
وعلى ذلك فإن التأثير المعرفي للفن، لا يتناقض مع تأثيره الجمالي، كونه يُعنى بكشف انطباعات وحقائق جديدة تتعلق بالحياة الإنسانية بعيداً عن الميكانيكية في معالجة المواضيع، وتناول الصور الفنية المتكررة. وهو إذ ذاك، يكشف جوانبَ أخرى وعديدة مجهولة بالنسبة للوعي الاجتماعي، انكشفت أمام ذات الفنان- الإنسان وعبَّر عنها بصياغتها موقفاً جمالياً يمثل وجهة نظره في الواقع المعروضة للمجتمع، وهو لذلك أحد أهم أدوات النضال الفكري لتغيير الواقع الاجتماعي.
ومن الجدير ذكره، أن الحلول الفلسفية السياسية الاجتماعية الأخلاقية المصاغة فنياً، والتي تقدم آفاقاً للدفع بالواقع إلى الأمام عبر تطبيقها خلال الممارسة الاجتماعية الواعية، هي بالضبط ما تتجنب الطبقات السائدة تقديمه للمتلقي في فنها. وتلك الحلول الجمالية لدى إيديولوجيات الطبقات المستغلِّة والمستغلَّة، تمثل ميداناً أساساً للصراعات الطبقية وللنقاش النظري كلٌّ من موقعه الطبقي، وهي بالتالي تمثل جوهر الفن في العصر المحدد بفترة تاريخية معينة. وقد يكون الفن المجالَ الوحيد لعرض القضايا الاجتماعية والسياسية الأهم بوجهة نظر تعكس المحتوى الرجعي أو التقدمي له في مراحل تاريخية ما. وتقاس موهبة الفنان الفعلية بقدرته على طرح ومعالجة وحل القضايا الكبرى استناداً إلى وعيه بدور الفن الأساس في تشكيل وجهة نظر تقدمية وواعية بشكل العلاقات الاجتماعية القائمة، وشكلها المطلوب، وإدراكه أن القضايا الاجتماعية الكبرى تنتقل إلى الفن آلياً بحكم علاقته العضوية بالقاعدة الاجتماعية، وعناصر البنى الفوقية الناشئة عن تلك القاعدة، ومعالجته إياها انطلاقاً من معرفته بقوانين التطور التاريخي الاجتماعي، وتأثيرها على الإنسان لتحقيق التغيير المطلوب، وهو ما تراه الطبقات السائدة تخريباً للمجتمع، في حين أنه تخريب لسيادتها الطبقية فقط، واستعادة للشعب لسيادته المشروعة.
إن إعادة تشكيل وجهة نظر الإنسان في العالم عن طريق الفن، هي إعادة تشكيل التكوين النفسي والروحي والفكري للإنسان، وإعادة خَلْقٍ لعالمه الأخلاقي على أسس واقعية جديدة تنحو نحو تقديم حلول جماعية للقضايا الاجتماعية الكبرى ببعديها الفردي والجماعي، بعيداً عن فطرية الأخلاق البرجوازية والفن الحدسي الذي يؤدي إلى فساد الذوق الفني، وهو ما ينعكس في معالجة الظروف والواقع الاجتماعي بطريقة حدسية عشوائية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
935
آخر تعديل على الأربعاء, 23 تشرين1/أكتوير 2019 12:58