ضيق هامش الإيديولوجية الرجعية على خط الجبهة الأمامية
في المادة السابقة، كنّا قد ذكرنا أن صراع الوعي والإيديولوجية يشكل مستوى مهمّاً من عملية التغيير. وبأن شروط هذا الصراع متحولة مع تحول شروط الصراع الاجتماعي. والتحول مرتبط بوظيفة الفكر السائد بالتعمية عن الواقع وعملياته وتشويه الوعي. التعمية هي محاولة فكر القوى المسيطرة عالمياً أن يفرض نظرته الخاصة عن العالم لكي تصبح هي المهيمنة، فتتأبد علاقات النهب عبر سردية محددة عن نمط الحياة التي تعيد إنتاج نفسها في أذهان الناس. ولكن عندما تهتز قدرة هذا الفكر على تقديم نموذجه عن الحياة، فهو يعمد إلى مواجهة النموذج النقيض حسب وجوده. ولكن ما هي حدود الصراع الإيديولوجي اليوم على ضوء الأزمة العميقة للرأسمالية وجديدها التاريخي؟
بين التقدم والتراجع
يقول فريديرك إنجلز: إنه قبل أن تتحول الماركسية إلى قوى سياسية وشعبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، جُوبهت بالتجاهل والتعتيم، ولكن بعد أن ثبتت قدراتها عبر تيار مؤثر لم يعد من الممكن تجاهلها، وأصبح لزاماً على الفكر المسيطر تشويهها، فتبنت العديد من القوى الماركسية شكلاً لتمارس التحريف ضمنياً. واستمر الصراع بين التيارات التحريفية والتيارات التي التزمت بالماركسية ومنهجها وطورته بشكل حاد طوال النصف الثاني من القرن العشرين، في الاتحاد السوفييتي بشكل بارز بين اللينينية وأعدائها وأبرزهم التروتسكية. وفي أوروبا بين التيار الجذري وبين الإصلاحية والفوضوية مثالاً. ولكن ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين بدأ تراجع التيار الجذري سياسياً في العالم، ومعه بدأت الماركسية تتراجع إلى حين غيابها عن مشهد الوعي طوال عدة عقود، وتحديداً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وسيادة النمط الليبرالي وثقافته وقيمه محمولاً على ممارسة فردية ضيقة، حملت تدمير مفاهيم العمل السياسي الحزبي والجماعي، فوقتها ركن الملايين مؤقتاً إلى عالمهم (الرأسمالي) سعياً «للسعادة». والماركسية تراجعت في المقابل ضمن الأحزاب الماركسية نفسها، وغابت كتب «الجدلية» عن الرفوف. ورافق ذلك كله استمرار للحملة بشكل مبطن ضد التجربة السوفييتية، الصاعدة تحديداً.
ماذا اليوم؟
لا يمكن أن نحدد إحداثيات الصراع الإيديولوجي إلا من خلال تحديد خط التمايز والتناقض وحِدَّته في البنية الإمبريالية وعلاقاتها بين ما صار يجب أن يُخلي الساحة التاريخية، وبين ما هو ضروري أن يولد من علاقات وقوى من جهة أخرى. والتناقض اليوم في حِدّته هو في العمق والاتساع ما يجعل النظام الرأسمالي ككل مطروحاً تغييره عالمياً، بعد الترابط والتأثير المتبادل الشديد الحاصل في العقود الماضية بين المجتمعات. ومعه انهيار السردية الليبرالية كسردية أخيرة متاحة لعالم ممكن في ظل الرأسمالية. والانهيار في مجمل مستويات الحياة الطبيعية والاجتماعية يُضيّق الهامش الإيديولوجي لدى القوى المسيطرة بشكل كبير. وهذا له انعاكسه على الأدوات التاريخية التعْمَويّة نفسها. لهذا مثلاً هناك صعوبة اليوم للكلام عن تيار إصلاحي سياسي قابل للحياة. فالفرز الشديد بين القوى على أساس المهام المطروحة ضيَّق هوامش المناورة والتذبذب السياسيَين (هذا ما جعل من أغلب القوى الليبرالية ومنها ما هو محسوب على اليسار والشيوعيين، أن تصير في موقع الخيانة الوطنية والتموضع إلى جانب الفاشية مثلاً). وضمن هذه الشروط أصبح الصراع الإيديولوجي أمام خيارات ضيقة للغاية، ويدور حول معانٍ تكاد تكون معدودة على أصابع اليد الواحدة.
المعاني المتصارعة في المجال الفكري
هذه المعاني المحدودة قلنا: إنها نتيجة خط التمايز التاريخي اليوم بين الجديد والقديم وشروط الواقع. وأول المعاني هو في تشويه الصراع العالمي وشيطنة القوى الصاعدة، بتوصيفها كـ «إمبرياليات جديدة» في بداية الأمر، ومن ثم تشويه دورها السياسي. حيث إن هذه القوى هي بالعكس ممثلةً لعالم جديد يُخِلّ بالبنية الإمبريالية ويفتح أفق استبدال الرأسمالية موضوعياً، إذا ما اعتبرنا أن بقاء العلاقات الرأسمالية هي عامل تفكيكي وتهديمي وتدميري للبشرية والطبيعة. المعنى الثاني: هو في تشويه البديل الاشتراكي وفكره الماركسي (اللينيني) وموروثه التاريخي، كونه هو النقيض الضروري القادر على استبدال نظام العلاقات المأزوم والمدمِّر عالمياً. كون التعتيم حول الماركسية ليس خياراً اليوم كما كان منذ قرن ونصف القرن، فالماركسية أثبتت حضورها التاريخي سابقاً بالرغم من تراجعها اللاحق. وهناك معنى آخر يعمل كقنبلة دخانية هو تعميم الفكر المسيطر لفكرة: وهميّة العالم الواقعي، إلى حدّ نكران هذا العالم والإنسان معاً (كنكرانٍ للأزمة) أو عجز الإنسان فيه عن التغيير (تيارات علمية وفلسفية وإعلامية سينمائية تروِّج لمقولات فلسفية أبرز دلائلها فيلم «المصفوفة-Matrix» كدلالة على «كذبة» العالم الذي نعيش فيه، والمدارس النفسية التي تلغي وجود الوعي وحرية الإرادة مثلاً). يبدو أننا لن نقدر على تعداد معانٍ رئيسة أخرى، وإلى هذا الحد ضاق هامش المناورة الإيديولوجية لدى الفكر المسيطر عالمياً.
التشوه في التيارات الجذرية
على مقلب العامل الذاتي ضمن الأحزاب الثورية، فإن عقود الليبرالية وثقافتها، إلى جانب ظروف الطبقة العاملة الحديثة المشتتة نسبياً وعلاقات الإنتاج المعقدة، كانت كفيلة بتشكيل عوامل انحراف كبيرة في التنظيمات الثورية التاريخية، وهو ما عزّز ما وصفه إنجلز بالتيار التحريفي بلبوس ماركسي غالباً. وإذا أضفنا لذلك عمق الأزمة وحدّتها، وغياب العمل السياسي المنظم وفكره، كل ذلك عزز من اندفاعة تيارات صبيانية مراهقة، أو فوضوية مغامرة لتكون هي السمة الأبرز اليوم للتيار التحريفي.
هذه التيارات المعيقة لولادة الجديد، إن أرادت أم لا، تلتقي في أرض المعركة بشكل كبير وتتعاون وتتخادم لسبب ملموس، هو ترابط المهام والقضايا عملياً وعالمياً في لحظة اشتداد الأزمة وتعمقها، على جبهة النار الإيديولوجية الأمامية التي ينتقل فيها العدو للدفاع والتراجع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 929