وحدة النشاط الاجتماعي والنشاط الروحي- العلمي والفني العضوية
سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

وحدة النشاط الاجتماعي والنشاط الروحي- العلمي والفني العضوية

شكَّلت التناقضات الاجتماعية في أنماط الإنتاج الاستغلالية أساساً وهمياً بَنَتْ عليه الطبقات المهيمنة أفكاراً مشوَّهَة في نخبوية النشاط الروحي (العلم والأخلاق والفن) للمجتمع، واحتكاره والاستقلالية لأشكاله، قابَلَتْها الطبقات والفئات الأخرى بترجمةٍ لتلك الأفكار تقول بمناقضة النشاط الروحي للنشاط الاجتماعي- العمل، وارتباط النشاط الروحي بالترف الاجتماعي والعمل بالبؤس.

في حين تظهر في جميع المراحل التاريخية الوحدة العضوية بين النشاط الروحي والنشاط الاجتماعي كضرورة لتطويع العالم الموضوعي. ولعل النشاط الروحي المرتبط بالنشاط الاجتماعي يظهر بارزاً في جميع الثورات في التاريخ البشري، وهو ما يدلّ على أن الإدراك الجمالي- الفني ارتبط تاريخياً بالنشاط الاجتماعي- العمل المُغْنِي للأفكار والمشاعر لدى الناس.
نلقي في مقالنا اليوم بعض الضوء على ارتباط النشاط الروحي جمالياً- فنياً بالنشاط العلمي والاجتماعي:
ـ1ـ
لقد تكونت المعارف البشرية- حتى الفنية منها- بالتجارب المباشرة، غير أنَّ معظم المعارف غير مباشرة، وقد اكتُسِبت بمراكمة التجارب المباشرة للأجيال السابقة. كما أنَّ خبرة الإنسان الفرد رغم ضآلتها أمام خبراتٍ متراكمةٍ عبر تاريخ طويل، تظل متميزةً باكتسابها بالممارسة.. بممارسة الإنسان لنشاطه الاجتماعي، وما يثيره ذلك النشاط من عواطف ومشاعر وأفكار. بمعنى، أن تلك الممارسة هي احتكاكٌ مباشر لمجموع التجارب المباشرة وغير المباشرة في الواقع. وبناءً عليه، تُزاح أو تصحح أو تُدعّم تلك التجارب. إن للخبرة المباشرة للإنسان علاقةٌ وثيقةٌ بعلاقة الفن بالواقع أو عدمها، وأعظم الآثار الفنية المجسدة للخبرات غير المباشرة، اكتسبت عظمتها من تجسيدها للخبرات المباشرة للإنسان والمجتمع.. والشعوب المختلفة.
إضافةً إلى أن علاقة الإنسان بالواقع الموضوعي هي علاقة إبداعية؛ فيها يمارس الإنسان نشاطه الاجتماعي لتطويع العالم الموضوعي- الخارجي. وكل عملٍ يقوم به، يعبِّر فيه عن ذاته الفاعلة ونواياها وعواطفها ورغباتها في إنشاء عالمٍ تصبو إليه، ولا يمكن أن تنفصل عن الظروف والقوانين الموضوعية فيه. وهو ما يعبِّر عنه أخيراً بسعادة المرء بثمرة عمله؛ ففي تطويع العالم تتجسد غاية الإنسان وإرادته، وعنه تتحقق استقلاليته النسبية عن العالم الخارجي وقوانينه، وينال حريته النسبية وحريته الجمالية- الفنية كذلك. وعن إدراك المحتوى وتحققه بالتطويع، تتحقق المتع المترتبة عن الإدراك الجمالي للإنسان والمجتمع عامةً والفنان خاصةً.
ـ2ـ
يمثّل الفن شكلاً من أشكال النشاط الروحي أو التطويع الذهني للعالم الموضوعي، ومحاولة لفهمه وإدراكه، وبالتالي تملّكه. وهذا التملك- إضافةً إلى الشَكلَين الآخرَين (العلمي والأخلاقي)ـ تملك ذهني، أي أنه ناتج عن الوعي بالظاهرة المتَّخَذَة موضوعاً للتطويع، وليس بالممارسة العملية. إذ لا يمكن امتلاك الواقع دون أن نَعِيَه.
لقد بدأ التملك الذهني بالشكل العلمي البدائي البسيط؛ فقد رُسِمَتْ نتيجةُ وغايةُ كل عملٍ قام به الإنسان في ذهنه، وبذلك حُدِّدت أدوات وأساليب العمل لبلوغ الغاية في التطويع أو التملك المادي. ثم تعقدت الأشكال العلمية بتعقد الغايات ذاتها، وظهرت النظريات الرياضية والفلكية.. بما للعلم من قدرة على النفاذ إلى جوهر الظواهر، والخروج بقوانين العالم الموضوعية، وخلال ذلك كان ولا يزال يُجرّد الإدراكُ الأشياءَ والظواهرَ من ألوانها. ولدى تفسيرها والتحكم بها، قد يعود إليها لونها من جديد، مما يدل على حاجة الإنسان إلى العقل والشعور.
والإدراك الفني إدراكٌ محسوس للعالم الخارجي، يتمايز عن الإدراك العلمي بكونه ليس مجرداً، غير أنه يتلاقى معه في إدراك أنَّ العالم الموضوعي مستقل عن الوعي، وفي قدرته على النفاذ إلى جوهر الظواهر ومحتواها، لكنه يستوعب جميع الجوانب الحسية فيها على شكل صُور فنية ملونّة.
على أنّ الإدراك الفني ليس محصوراً بالحس؛ إذ إن الحس، علاوةً على ارتباط نموه بنمو الإدراك الحسي، واستحالة وجوده خارج الإنسان، ورغم أنه أهم منفَعَل أو صفة يستثيرها الشيء أو الظاهرة، فإنه عاجز عن النفاذ إلى جوهر الأشياء والظواهر.
إن أولى العواطف والمشاعر واستيعاب العالم وألوانه وكائناته وظواهره يمر بالعقل أولاً. غير أنّ درجة إدراك هذه الظواهر ترتبط بدرجة الترابط في علاقة الحس الفني بالمعرفةـ العلم. وهي تتناسب معها طرداً. ورغم ذلك يظل الحس ضرورياً لعلاقة الإنسان بالإدراك الجمالي- الفني للعالم الموضوعي، كعلاقة القارئ بالقصة والقصيدة؛ إن إحساسه بالجمال الفني ليس منبعه الإحساسات، وإنما الصور التي تحاكي تجربته المعاشة. ومن هنا، لا يمكن خلق الفن دون اعتماد على الحواس الإنسانية المكوَّنة بالخبرات، ولا يمكن تلقيه دون الحواس المصقولة بالتجربة الحية. وبغض النظر عن مدى تقبُّل الإنسان لفكرة ارتباط علاقته بالفن بالواقع والتجربة الإنسانية، فإنها حقيقة لا يمكنه تجاوزها، رغم محاولات الطبقات المهيمنة طمسها عبر لإشاعة نظريات ضحلة في الفن الغامض تناقض تلك الحقيقة.
إذاً، الإدراك الفني للعالم الموضوعي وقوانينه، لا يمكن أن يتجاهل الممارسة العملية للإنسان ونشاطه الاجتماعي، وهو يزود الفنان وفئات المجتمع المختلفة بالعام من الفن مستوعباً جميع الظواهر الجانبية والمصادفات التي تُنتِج الخاص الإبداعي منه.
ـ3ـ
مع تشعّب العلوم وتخصصها، تبرز الحاجة إلى الإدراك الجمالي- الفني من حيث بناء الموقف تجاه المنجزات والظواهر الناتجة عنه، ومدى تأثيرها السلبي أو الإيجابي على البشرية. الإدراك الفني علاقة اجتماعية مرتبطة وثيقاً بالمنجز العلمي. إن أي مستوى من أي عمل علمي أو عضلي، يتطلب مستوى معيناً من الإدراك الفني المباشر وغير المباشر، خصوصاً في عالمنا وظرفه اليوم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
928