الاستشراق.. الاتجاهات والمآلات
تعود الجذور الأولى للاستشراق بشقه الثقافي إلى الحملات الصليبية التي استمرت قرنين (1097- 1291) بأبعادها السياسية العسكرية. وإذ كانت الصلات بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارات المحيطة انعقدت بشكلها الطبيعي خلال التفاعل والاحتكاك والتأثير المتبادل في العصور السابقة على تلك الحملات، واتخذت طابعها المميز في الحروب بين العرب المسلمين والبيزنطيين، وفي الوجود العربي في الأندلس.
فإن لبدايات حركة الاستشراق اعترافاً بثقل المنجز الحضاري للعرب المسلمين في العصور الوسطى، لجهة أن الحروب الصليبية أتاحت للغرب للمرة الأولى الوصول إلى أصول الحضارة العربية الإسلامية في معاقلها في المشرق، ونقل منجزاتها إلى أوروبا لضرورات النهوض الغربي. وقد كانت للاستشراق في المراحل التالية مهامُّ مختلفة تماماً، فقد بدأ نشاط الحركة الاستشراقية بالازدياد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع تحول الرأسمالية إلى الطور الإمبريالي، بما تمثله من عصر احتكارات أعادت اقتسام العالم. ولا يمكن بحال من الأحوال عزل مواقف المستشرقين من التراث العربي الإسلامي عن السياق التاريخي والظرف المحدد سياسياً وعسكرياً لنشوء الاستشراق وبروزه، لأن التوسع السياسي العسكري الإمبريالي تطلب السيطرة على الثقافة العربية الإسلامية وأصولها والتحكم بتطورها واتجاهاتها الحديثة. كذلك فإن العزل عن الظرف السياسي، سيجعل البحث في الاستشراق عملاً لا تاريخياً مجرداً.
نلقي في مقالنا بعض الضوء على الاتجاهات العامة في الاستشراق الكلاسيكي والحديث فيما يخص منطقتنا:
-1-
توجه الاستشراق إلى البرجوازيات العربية؛ إذ كان على الرأسمالية الغربية أن تشكّل إيديولوجيا البرجوازيات التابعة في المنطقة بشكلٍ متخلِّفٍ عن إيديولوجيا الرأسمالية، فتتخذ طابعها الغيبي عن طريق المحافظة على شكل المحددات الثقافية في تراث المنطقة، وإهمال جوهرها الاجتماعي، مما يضمن استقطابها لطبقتها وحلفائها، وبالتالي وجودها في مجتمعات المنطقة بإيديولوجية تبدو غير منسلخة عن التاريخ الثقافي للمنطقة والبنى الثقافية الأصيلة التي تصوغ المشاعر والنفسية القومية والوطنية، لكنها لا تهيئ الظروف الطبيعية لنضوج التناقضات بين تطلعات الشعوب والمطامع الغربية والمصالح الضيقة للبرجوازيات التابعة.
أي: إن الاستشراق توجَّه إلى البناء الثقافي والإيديولوجي للبرجوازيات التابعة في المنطقة، من حيث إن سيطرة هذه البرجوازيات على البنى الاقتصادية أولاً والبنى الفوقية (الثقافية السياسية الحقوقية الفلسفية الأدبية التعليمية..) تالياً، سيشكل إيديولوجيا المثقفين والمتعلمين، وستوظف قدرتهم- بقصد منهم أو عن غير قصدـ لصياغة ثقافة ووعي وفكر محلي حديث يستند إلى الغيبية والمثالية، ويرسّخ نهج البحث اللا تاريخي المثالي في التراث، وبالتالي إحكام السيطرة الغربية على المنطقة ثقافياً بدعائم ثقافية محلية جوفاء.
-2-
اعتمد الاستشراق أحد الاتجاهات التالية في البحث في التراث العربي الإسلامي خاصةً و(الشرقي) عامةً:
الاتجاه الأول: الذي يعتمد (نظرية الأجناس) التي ظهرت في القرن الثامن عشر للبحث في التراث العربي الإسلامي، والتي تنطلق من وجهة نظر عنصرية، تتبنى فكرة عجز العقل الشرقي عن التحليل والتركيب وتميزه بالهياج العاطفي، بما يضفي على الفكر الشرقي صبغته الغيبية، وعليه فإن العجز عن تجاوز الواقع الاجتماعي في الشرق، هو عجزٌ جيني لا فكاك منه.
وحيث إن شعوب الشرق عاجزة عقلياً، وهي منقوصة الإنسانية، فإن مصدر التراث العربي الإسلامي يوناني، لم تقدم الحضارة العربية الإسلامية أي تحليل أو إضافة عليه، بل إنها انتحلته بلغتها العربية، في حين أن للغرب نزعته الإنسانية العاقلة التي تتلاقى مع ثقافة أجداده اليونانية، وبالتالي تطورها. أما الفلسفة العربية الإسلامية، فقد انكمشت إلى بضعة أبحاث متفرقة لفلاسفة ذوي أصول غير عربية للتوفيق بين التشتت الذي سبغ الحضارة الإسلامية ودينها، والترابط والانسجام في الفلسفة اليونانية، معتمدين في بحثهم على أدوات المنطق اليوناني.
يعجز مستشرقو نظرية الأجناس، (رينان- بيكر- غوتييه- ..)، عن إدراك أن الظروف التاريخية من حيث علاقتها بالظروف الاجتماعية المحدَّدة في المجتمعات ظروفٌ متغيرة، وهي ليست ثابتة مطلقة تختص بها شعوب ومجتمعات دون أخرى. وأن (العقلية والإنسانية) ليست حكراً على شعب واحد دون الشعوب الأخرى في منطقة في العالم دون أخرى؛ إنها مهيأة لدى شعوب الأرض قاطبة. أما التفاعل الإنساني مع الحضارات دون الاقتصار على النقل، فإنه يتوقف على الظروف التاريخية في المجتمع إياه، لجهة طبيعة العلاقات الاجتماعية المحددِّة لكامل البنى الفوقية في المجتمع، والتي تؤثر في العمق في بناء النفسية الفردية والجماعية في المجتمع. وعليه، فإن التراث العربي الإسلامي ليس لغةً وأفكاراً مشتتة، وإنما بناءً فكرياً منسجماً ناتجاً عن بنى اقتصادية سياسية اجتماعية محددَّة شكَّلها الإسلام من حيث كونه عقداً سياسياً اجتماعياً في تلك الفترة الزمنية، بما يستتبع ذلك من تشكيلٍ لبنى نفسية فردية وجماعية وعلوم عالية تشمل فلسفات الوجود واللغات.. إلخ. وما انصهار نتاج الحضارات السابقة سوى تلقف لها من الحضارة العربية الإسلامية الآخذة في النشوءِ المنتجِ لقضايا ومشاكل وحاجات اجتماعيةٍ، تَنتِج من صلب بنية المجتمع العربي الإسلامي بالذات تياراتٍ فكريةٍ متعددة، وليست بنى أخرى.
فشلت نظرية الأجناس في فرض نفسها علمياً. غير أن أبعادها الخطرة ظلت مؤثِّرة لإفشال موضوعات الصراعات الطبقية من خلال تكريس أن الفوارق ليست اجتماعية طبقية، وإنما جينية تتحكم بالقدرات العقلية، بالإضافة إلى حيويتها في المركز الغربي الناهب، حيث يجري تعميمها اجتماعياً. علاوةً على أنها تمثل الوجه الأكثر عداءً لشعوب المنطقة، وهو بالتالي أكثر الأشكال إثارةً للتحدي لتحقيق الطموحات التحررية في تجاوز هذا النظرية الباطلة.
الاتجاه الثاني: الذي يدعو بمركزية الفلسفة- المعرفة الغربية انطلاقاً من الأرضية الطبقية ذاتها. وتنطلق من أساس عجزها عن النفاذ إلى الجوهر الخاص، واستخلاص العام منه بين الثقافات والحضارات، والذي يوحِّد تاريخ الثقافة البشرية. وعلى ذلك، فإنهم يطلقون الأحكام المطلقة على الخاص، أي: على الفوارق بين الثقافات، ويبنون عليه نظريةً كاملة.
ورغم أنه ساد في أوروبا خلال نهضتها الصناعية تطورٌ في البحث العلمي يهيئ للوصول إلى استناجات صحيحة علمياً، غير أن مشكلة مستشرقي هذا الاتجاه (هيغل أبرزهم- نورتراب- W Hassـ ..)، ظلت كامنةً في الفصل بين أنماط التفكير في الشرق العاطفي غير العقلاني، والذي يميزون بين ثقافاته (الهندية- الصينية- فارس- المشرق العربي-..)، وفي الغرب التحليلي العقلاني بشكلٍ لا يمكّن من عقد الصلة بين طرائق الوعي والتفكير بين الشرق والغرب. فها هم يميزون بين الدِّين والفلسفة من حيث كون الدِّين سابقاً على الفلسفة! وفي حين أن الدِّين يستند على التصورات، ولا تكفي العناصر الفلسفية المتفرقة فيه لجعله فلسفةً، فإن الفلسفة عمادها التفكير، وعلى ذلك دعوا إلى (إسقاط الشرق من تاريخ الفلسفة).
شكلت نظرية المركزية الفلسفية الأوروبية الأساس الإيديولوجي للرأسمالية العالمية الذي انطلقت منه للسيطرة على الشرق (العاطفي) وتبرير تلك السيطرة، وتحولت المركزية المعرفية الأوروبية مع تطور الرأسمالية، لتأخذ شكلها الإمبريالي الأميركي، لتصبح المركزية الغربية.
وقد ظهرت مع ظروف التحرر القومي في المنطقة نظريات مقابلة، تدّعي المركزية الشرقية بقصد مواجهة العنصرية بعنصرية أخرى، على أن للنظريتين جذوراً طبقية واحدة تنتهي إلى إفراغ عناصر التراث العربي الإسلامي من مضامينها الاجتماعية.
تعجز الإيديولوجيات البرجوازية عن إدراك، أن الظروف التي تحافظ على حياة البشرية واحدة في الشرق والغرب، وأن القوانين التاريخية الموضوعية المحدِّدة لحياة المجتمعات البشرية شرقاً وغرباً، والمؤدِّية لزيادة أو تثبيط النشاط الفعلي العملي للإنسان فرداً وجماعةً هي ذاتها. وأن المادة الواعية- المخ ناتجةٌ عن التطور الطبيعي للمادة غير الواعية شرقاً وغرباً، وبالتالي جوهر التفكير واحد. وأن الوعي انعكاس للواقع الموضوعي- العالم الذي يحيا فيه الإنسان. وأن ما سبق هو ما يؤدي إلى الخروج بالنتائج التي تعترف بالإنسان كائناً اجتماعياً يعقد صلته الفردية والجماعية مع الأفراد والجماعات في الشرق والغرب وبينهما. وأن هذه الوحدة العامة للمنشأ البشري الواحد وللمجتمعات البشرية، لا تلغي الخصوصية الثقافية لها، لأن العام يحفظ خصوصيات الثقافات البشرية في طرائق التفكير ضمن جدلية العلاقة بين العام والخاص في وحدة الفلسفة الإنسانية.
إن التفاوت في ظروف التطور التاريخي للحضارات، جعل في كل مرحلة تاريخية محددة حضارةً بشريةً معينةً تؤدي دور الحامل الرئيس لتاريخ التطور البشري منصهراً بها، ومؤديةً في الوقت ذاته دورها في تطوير التاريخ البشري وثقافته. غير أن اتجاه العالم اليوم في التطور الاقتصادي، رَفَع إمكانات وقدرات التشبيك الاقتصادي، وما يتبع ذلك من تشبيك ثقافي فلسفي مع الثقافات الأخرى، وازدادت بالتالي فرص التقاء والتفاعل بين الحضارات ضمن وحدة الفلسفة في العالم. على أن الجاري حالياً، هو التركيز على العام في الفلسفات العالمية، ما يؤدي إلى إهمال الخاص في الفلسفات والثقافات الوطنية في جميع الدول الطرفية، مما يسهل تشويه عناصرها الخاصة، وتشويه إنجازاتها الحضارية، وهو ما على القوى الوطنية مواجهته.
-3-
الاتجاه الثالث: ظهرت منتصف القرن العشرين محاولات استشراقية حديثة مع تعمق الأزمة الثقافية الغربية الرأسمالية والحاجة إلى سد ثغراتها العميقة بدعائم جديدة تقف حائلاً دون انتشار الإيديولوجيا الماركسية. عمدت تلك المحاولات بعد الحرب العالمية الثانية إلى البحث في فلسفة الشرق عن قيم جديدة كان الاستشراق الكلاسيكي أغفلها، مفترِضةً أن قيم الشرق قادرة على مساعدة الغرب في سد ثغرات فلسفته، (جون ديوي- سدني هوك-..)، وعُقدت مؤتمرات حول منح فلسفة الشرق فرصة إثبات نفسها أمام فلسفة الغرب، وطرح فكرة اندماج فلسفة الشرق بفلسفة الغرب.
إن عملية دمج الحضارات بمعنى تقارب الثقافات وزيادة تفاعلها، يعتمد على تطوير العلاقات الاجتماعية في البلدان الطرفية، والذي سيُنتج فلسفته الحديثة المحددة بطبيعة العلاقات الاجتماعية تلك. ويمكن عند ذلك إحداث تفاعل أو تأثير وتقارب في عناصر الفلسفة العامة، وليس الخاص في الفلسفات والإيديولوجيات الأخرى.
أما أن يحدث الاندماج الثقافي، فهذا غير واقعي، لجهة أن الفلسفات محصلة لتطور تاريخي للشعوب المختلفة، وأن لها طابعها الطبقي المتمايز من منطقة إلى منطقة أخرى، وأن التأثير المتبادل بين الثقافات والفلسفات المختلفة (الشرق والغرب هنا)، لا يجري إلا عبر عملية تاريخية معقدة تعتمد على النشاط الاجتماعي المعقد غير البسيط محكوم بعلاقات اجتماعية محددة، وليس بالفرض الخارجي- كالمؤتمرات، كفرض ناعم- الذي لن يخرج عنه سوى (فلسفة انتقائية) تنزع عن أسسِ التراث العربي الإسلامي خاصةً والشرق عموماً جوهرَها الاجتماعي، وتعيدها إلى أشد الأشكال رجعيةً وغيبية (كالصوفية اليوم- اليوغاـ ..). وعليه، فهي تطمر بعيداً الاتجاه العقلاني للفلاسفة في التراث الإسلامي العربي المؤدي إلى الأساس المادي في الوجود، وتحصر أسس التراث في الاتجاهات اللاعقلانية- المثالية الصوفية الغيبية.
لكن المثير في هذا الاتجاه، هو تسويقه إمكانية التقاء الغرب والشرق غيبياً، وعجزهما عن التلاقي العلمي؛ إذ تعود هنا قضية الفصل بين العقل الغربي المنسجم والعقل المهتاج المشتت الشرقي للبروز بحدة! غير أنَّ ذلك يدخل في صلب إيديولوجيا الإمبريالية التي تهدف إلى إشاعة الفكر الغيبي بين طبقات شعوبها والشعوب الطرفية على السواء، وكذلك التفريق بينها فيما يتعلق بالواقع الاجتماعي، إذ من شأن ذلك أن يخفي بعيداً الصراع الطبقي كمحدد أساس لمسار التاريخ البشري في الشرق والغرب على حدٍّ سواء.
ـ4ـ
تظهر الاتجاهات الثلاثة أعلاه، وجه الاستشراق العدائي وغير الموضوعي تجاه شعوب الشرق وتراثها، وتجاه شعوب الغرب ذاته، من حيث خلق فوالق وهمية تهدف إلى إدامة سيادة حفنة قليلة من أباطرة المال على العالم، وبما يمنع الالتقاء والتفاعل الطبيعي غير المهيمن بين ثقافات الشعوب. غير أن للاستشراق وجهاً موضوعياً آخر، سنبحث فيه في المقال القادم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 918