المملكة المتحدة تحشد على الجبهة المعنوية- الروحية؟
إن اشتداد أزمة نمط الحياة الرأسمالي كنظامٍ معادٍ للإنسان، تأخذ طابعاً مختلفاً عالمياً، عملاً بقانون تفاوت التطور نفسه.
ولكن في كل الحالات فإن تمظهر الأزمة يعبّر عن وصول التناقض الذي يعيشه الإنسان إلى حدوده التاريخية. ففي حين أن الانعكاس المباشر في دول الأطراف يأخذ غالباً طابع الدمار المباشر للإنسان من خلال الحروب، والتفكك السياسي، وانهيار قدرات الحياة الملموسة اقتصادياً وبيئياً، بتداخل مع الطابع المعنوي، بسبب تهميش الإنسان الشامل. وبالتالي، تغييب كرامته وقيمته، فإن انعكاس الأزمة في دول المركز يأخذ طابع الدمار المعنوي أكثر، بتداخل مع الجانب المادي لتراجع قدرات المعيشة في الآونة الأخيرة، محمولاً على تعفن المؤسسات والعلاقات الاجتماعية، والقيم التي تأسس عليها نمط الحياة الغربي الليبرالي، وخصوصاً في ظل وضوح انغلاق أفق مسار هذا النمط في السنوات التي أعقبت الأزمة المالية، والتي تؤدي بالنهاية إلى نوع آخر من الموت الروحي، الذي يصل غالباً إلى الموت المحققّ. إمّا انفصاماً وتعطلاً عن الحياة، أو انتحاراً أو قتلاً.
المملكة القلقة والمكتئبة
خلال السنوات الماضية عامة، والأشهر الأخيرة خاصة، تكوّنت حالة فرضت نفسها على المستويات الأكاديمية والصحية والسياسية البريطانية. فبالاعتماد على تقارير ودراسات واستبيانات الإعلام، وممثلي القطاع التعليمي والصحي، فإن الجيل الجديد بأغلبيته يعاني من عوارض اضطرابات عقلية ونفسية حادة، تعبّر عن نفسها من خلال الانسحاب الدراسي المبكر في شكلها «الأقل عنفاً» وصولاً إلى الاكتئاب الحاد وإيذاء الذات، وعمليات القتل أو الانتحار ومحاولة الانتحار. وأظهرت إحصاءات الصحة العقلية في المملكة مثلاً: أن نسبة الأطفال والمراهقين الذين يعانون من اضطرابات عقلية ونفسية بارزة، ارتفعت في السنوات الخمس الأخيرة حوالي الربع (بالرغم من التراجع السكاني العام)، لتصل إلى حوالي 10% من طلاب المدارس على مستوى البلاد حسب بعض التقارير. حيث وجدت دراسة طالت 8600 من إداريين، وأساتذة واستشاريين نفسيين، أن 83% من الذين تم أخذ رأيهم قالوا: إنهم شهدوا ارتفاعاً في حالات الاضطراب العقلي لدى طلاب المدارس، لترتفع النسبة إلى 90% في حالات طلاب الجامعات. في حين وجد تقرير التخطيط المستقبلي الذي طال الجامعات عن العام الدراسي 2016-2017 أن حوالي 60 ألف طالب جامعي بلّغوا عن حالة صحة عقلية طلباً للاستشارة. في حين أظهرت «إحصاءات صادمة» عن أن 16 مليون مواطن يعيشون اضطراباً عقلياً، و3 من كل 4 اضطرابات تظهر قبل عمر 18 عاماً، واعتبر الانتحار هو «القاتل» الأول في المملكة ما بين عمر 20-34 عاماً، حسب مكتب الإحصاء الوطني، والرقم أكبر من 10 سنوات مضت، ففي عام 2015 مثلاً، انتحر 1660 شخصاً ما دون الـ 35، وهو في ازدياد سنوي (103 حالات أكثر من 2014). واعتبرت الاضطرابات مخفضة لأمد الحياة من 10 إلى 20 عاماً، أي: أقل من المتوسط «متفوقة بذلك على التدخين».
«فضيحة الرعاية»
في ظل هذه الأرقام الملفتة الصادرة عن مراكز إحصاء صحية رسمية، انفجرت فضيحة غياب شبكة الرعاية القادرة على «التصدي» لهذه النسبة المرتفعة من طالبي الرعاية. مثال على هذا الغياب: أنه تم رفض حوالي 56 ألف طلب لأطفال ومراهقين السنة الماضية بسبب تقييمها أنها غير «جدية وحادة»، حسب معهد السياسة التربوية. في حين تصل مدة الاستجابة للطلب أحياناً إلى 10 سنوات، بينما تعلن السياسة الصحية: أن الوقت الأقصى للاستجابة هو 4 أسابيع! هذا الشحّ عزاه البعض إلى تخفيض التمويل عن شبكة الدعم الصحي- النفسي في السنوات الماضية. ووجدت دراسة طالت الكادر التعليمي بأن 46% فقط قالوا: إن الطلاب قدروا على الوصول للخدمة الصحية، و19% قالوا: إن طلاباً حصلوا فعلاً على الرعاية، و22% قالوا: إن واحداً من كل 5 طلاب (20%) انتظر أكثر من 5 شهور لكي يبدأ بالرعاية، حسب «د. نيهارا كراوز» الاستشارية العيادية النفسية المسؤولة التنفيذية عن برنامج «ستيم4» المختص بالشؤون العقلية والنفسية، التي ربطت الظاهرة بارتفاع المعاناة الأسرية. مثال عن الذين يعانون من قلة العناية العقلية (حسب محامية) هو: «كالين ويلسون» (20 عاماً)، الذي قتل «حازم غرير» الشاب السوري في بيلفاست عندما حاول «حازم» منع «كالين» من سرقة دراجة.
بينما تقارير أخرى قالت: إن أقل من 12% من المدارس لديها مساعد صحي عقلي. هذا الواقع أجبر رئيسة الوزراء «تيريزا ماي» وناطقين حكوميين بالتصريح عن رفع تمويل القطاع في السنوات القادمة ليصل إلى 300 مليون جنيه إسترليني إضافي عام 2024، كونه اليوم 6% فقط من أبحاث المملكة الصحية التي تُعنى بالصحة العقلية، و30% فقط منها تتوجّه للجيل الشاب، و22 مرة أقل من تلك المعنية بالسرطان.
أزمة اغتراب ووحدة
بالرغم من حجم النقاش حول ضعف شبكة الرعاية، إلّا أنه تحويل لأصل الأزمة، كونه يركز على النتيجة، وليس على السبب. ففي سياق آخر كشفت دراسات طالت فئة الشباب في المملكة، قامت بها «كينغز كوليج» (لندن) لاستبيان 2232 شاباً أقل من 18 عاماً، أن هناك شعوراً عاماً بالعزلة والوحدة لدى الفئة الشابة، بغض النظر عن المحيط والمستوى الاجتماعي (مديني، ريفي، متوسط، فقير). هذه «العزلة والوحدة» ليست إلّا فقدان معاني الحياة والدور في النمط الرأسمالي، والاغتراب العام عن الواقع، وما اعتبره البعض «وباء القلق والاكتئاب والفكر الانتحاري في المملكة» ليس إلا شكلاً لقيح النظام الرأسمالي في دول مركزه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 912