مناظرة العصر بين اليمين المتطرف والوسطي
سمّى العديد المناظرة التي حصلت بين سلافوي جيجك وجوردان بيترسون «مناظرة العصر». والتي اعتبرت بين اليمين المتمثل ببيترسون، واليسار المتمثل بيجيجك. المناظرة التي دامت أكثر من ساعتين بإستضافة جامعة تورونتو، تخللها جوٌّ من الودّ بين الجهتين، والتي كانت تحت عنوان: الرأسمالية، الماركسية، والسعادة.
نلتفت لهذه المناظرة لا لمضمونها الفكري، ولا للتشويه الذي يقوم به جيجيك عن قصد للماركسية، بل للتمايز الذي أبداه بيترسون عن خصمه.
لقد بدأ بيترسون مناقشته بنقض البيان الشيوعي، الذي أبدى إعجابه به من الناحية الأدبية، ولكن نقضه له من الناحية الفكرية. تشبث بيترسون بدعمه للرأسمالية مبتدئاً من أرض الخصم، ومستعيناً بدراسات وأرقام حول الفقر والوضع المعيشي والسعادة. انتقل بخفة من فكرة إلى أخرى، جاعلاً جميع من يسمعه يعجب بالأداء والغنى في المعلومات. هذا حتى لو أنّ المعلومات التي استعملها بيترسون يمكن نقضها ببساطة، وأنها لا تعني أنّ الرأسمالية قد أنتجت السعادة في العالم. فكان قد استعمل إحصاءات عالمية ليدل على أن معدل الفقر ارتفع إلى 1,9$ يومياً، وهذا بالنسبة له إنجاز للنظام الرأسمالي. وشدد على أنه بالنسبة للماركسية «كل شيء سلبي»، الوضع سلبي والإنجازات سلبية. ولكن لم يستطع جيجيك حتى الرد على هذه الفضائل التي تفضل بها بيترسون حول النظام الرأسمالي وادعائه بإمكانيته نقل الآلاف من البشر إلى مستوى معيشي أفضل. بل انزلق نحو الإعجاب والموافقة مع بيترسون.
لماذا حصلت مناظرة على هذه الشهرة؟
لا يتمتع بيترسون أو جيجيك بشهرة واسعة، وهذا ما ابتدأ به جيجيك، معارضاً أن لكليهما شهرة محدودة في الوسط العلمي. فالعديد ممن تابع المناظرة لا يعلم بأي رأيٍ سابقٍ لكلا المتحدثَين. ولكن أخذت المناظرة شهرتها لعدة أسباب. الأول: أنّ هناك شحاً فكرياً وثقافياً في الوسط العلمي والفكري، ما يجعل أي رأي ذا وزنٍ وقيمة. والثاني: أنه رُوّج المناظرة على أنها بين إيديولوجيتين مختلفتين، من هو ماركسي ومن هو رأسمالي.
أما ما يجب أن نستخلصه من هذه المناظرة، هو: أن أغلب اليسار لا زال بعيداً عن القدرة على المواجهة الفكرية، وذلك للأسباب التالية:
1- تميز بيترسون: إنه كان متكاملاً من حيث الأداء وطريقة عرض المضمون. فانعكاس شخصيته الفذة، وثقته العالية بالنفس، والحقيقة المطلقة التي يتحدث بها، تجعل من مناقشته صعبة جداً. فهو وإن كان يمكن مناقشته بوقائع وأرقام إلّا أنَّ من يناقشه لا يتمتع بهذه القدرة. وخاصة أنه بشخصيته يسيطر على النقاش.
2- الشهرة السريعة التي تلت مواقف بيترسون: هي إحدى دلائل الفراغ الفكري الذي وقع به اليسار وحتى الوسط الشيوعي. وهذا الفراغ بعد سنوات لا يمكن تعبئته بمجهود فردي. خاصة أنه يعني امتلاك العديد من المعلومات، وهنا عامل الوقت يلعب دوراً مهمّاً لناحية تسارع المعركة نفسها. وإنّ بيترسون يترأّس مركزاً في جامعة مهمة في العالم، وهذا يعني قدرته على الوصول إلى المعلومات من خلال طاقم العمل وطلّابه.
3- الشهرة تعني أيضاً: إنه جاء ليلعب دوراً في هذا الوسط العلمي الليبرالي. فالفرق بينه وبين جيجيك أنّ الأخير لا يملك هذا الدور. وقد يكون هذا لموقفه المتذبذب، فهو من جهة ينقض الشيوعية، وخاصة ستالين، ومن جهة أخرى ينقض الرأسمالية. والرأسمالية تحتاج إلى هؤلاء فقط لتمييع الصراع ولتمييع الفكر والثقافة، ولكنها تُبقي على موقعه كما هو لكونه لا يتحدث باسمها مباشرة.
4- شهرة بيرتسون: هي أولاً: من خلال مواقفه ضد النسوية المتطرفة. ولكون من يناقشه في هذا أضعف بكثير، وفوضوي من حيث المنطق والطرح. وهذا ما جعل من يسمعه يوافق معه لكونه أبرز الحجة المناقضة للنسوية الجديدة، بينما لم يستطع اليسار طرح موقف واضح، بل لا زال متذبذباً بين مؤيد للنسوية الجديدة ورافض لها.
5- الشهرة التي حصلت عليها المناظرة تعني: أن اليسار والشيوعيين بخاصة مدعوّون بقوة إلى خوض المعركة الفكرية كخط سياسي بديل.
حتى لو أنّ بيترسون يميني متطرف، ولكنه على الأقل يسمح لنا بالتعلم من مدى تأثيره على الأفراد. فهو مباشر، منظم، ومدافع شرس عن قضيته، وليقوم بذلك من خلال حجج مباشرة وإحصاءات. وندرة أفراد شيوعيين لمواجهة هكذا خطاب هي المشكلة الأهم التي يجب معالجتها. وهي أنّ الفرد المؤثر في المجتمع لا يمكن له ألّا يكون متكاملاً في هذا التأثير، من حيث الطرح والوضوح والأفكار. وبما أننا نعاني نتيجة عدة سنين من الجفاف الفكري والإنتاجي، بغض النظر عن الأسباب لذلك، فهذا يعني أنه علينا ملء الفراغ بأسرع طريقة ممكنة. وهذا يعني أن المجهود المشترك هو الوسيلة لملء هذا الفراغ، والذي سيسمح لنا بتكوين كادرات تستطيع ملء الفراغ، وتستطيع بشكل متكامل طرح مشاكل المجتمع.
(سلافوي جيجيك: فيلسوف سلوفيني وأستاذ في جامعة ليوبليانا، دائماً ما يهاجم ستالين في طروحاته، أي: دائماً ما يقع في فخ الفوضوية ليضع نفسه حامي الليبرالية ومتحدثاً باسمها من موقع نقضها.
جودران بيترسون- كندي: أستاذ علم نفس في جامعة تورونتو، اشتهر في السنوات الأخيرة لمواقفه من النسوية، يميني متطرف وداعم علني لليبرالية).
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 911