«اليد الخفيّة» للسوق والثقافة في كوبا
خلال الأيام الأولى من وصوله إلى موقع الرئاسة الكوبية في العام الماضي وقع الرئيس ميغيل دياز- كانيل المرسوم349 (تحديث للمرسوم 226/عام 1997). المرسوم معنياً بالسياسة الثقافية في كوبا. منذ توقيعه قامت حملة منظمة ضده (لا للمرسوم 349) من الجهات الحكومية وغير الحكومية الغربية، كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والجمعية «العالمية» «أمنيستي» ومركزها الرئيس في لندن، مجمل الصحافة الغربية كـ «رويترز» و«الغارديان» و«اندكس» (الشبكة المكرسة لدعم «حرية التعبير»). طوال الأشهر الـستة الماضية، حازت المسألة ضخاً اعلامياً بارزا من خلال الهجوم على المرسوم باعتباره «انتهاكاً لحرية التعبير، وسياسة الحكم الواحد- الشيوعي».
بعضٌ من مكونات المرسوم
يعتبر الفصل الثاني (المادة 2.1) أنه سوف يتم تغريم الفنانين ومن يقدمون خدمات فنية، الذين يخالفون الحصول على إذن مسبق من الجهات الحكومية. بينما تشير المادة (3.1) أنه يعتبر انتهاكاً من ينشر موادَّ سمعية- بصرية تحمل مضموناً بورنوغرافياً، أو يمس بالرموز الوطنية، أو يُظهر تمييزاً عرقياً حسب لون البشرة أو الجنس أو تجاه ذوي الإعاقة، وأن هذه السياسة تطال من ينتهك التسيير الطبيعي للمجتمع الكوبي بما يتعلق بالشؤون الثقافية. أما المادة (4.1) تشير إلى أنه يعتبر انتهاكاً، أي عرض أو أداء موسيقي- فني ينتج عنفاً ذو مضامين جنسية أو تمييزية أو فحشاً أخلاقياً. وأن العقوبات قد تطال كل من ينتهك مواد المرسوم بالتغريم المالي (تتراوح ما بين 1000 إلى 2000 بيزوس، أي: بين حوالي 38 و76 دولاراً أمريكياً) إضافة إلى مصادرة المواد «الفنية» والحظر على مكان العمل الفني إذا لم يكن ضمن الفضاء العام (كالمرسم، أو المعرض أو الأستديو الخاص).
نقاش واعتراض، واستغلال
ليس كل ما طال المرسوم ينضوي ضمن الحملة الغربية على كوبا، بل إنّ أصواتاً طرحت ضرورة النقاش من أجل توضيح بعض البنود التي وُجدت عامة في المرسوم، وذلك من خلال نقاش مع الفنانين والأطر الثقافية الكوبية، وذلك كما حصل ضمن النقاش الشعبي للدستور خلال الأشهر الماضية. ولكن ميّزت هذه الأصوات بين موقفها البناء من المسألة، أي: عدم رفضها لتنظيم الحياة الثقافية في البلاد بما يخدم مسألة وحدتها وحمايتها من التفكك و«الخضَّات» والدعاية غير التقدمية في ظل الحصار والهجوم الرأسمالي المسعور، وبين الموقف الفوضوي التدميري تحت شعار «حرية التعبير الفردية».
بينما من الجانب الرأسمالي كان للولايات المتحدة «منتجة الديمقراطية الفردية وحرية التعبير العالمية» الكلمة الأبرز، حيث صرحت السفارة الأمريكية في العاصمة الكوبية هافانا على منصة «تويتر» بنعم لـ«الحرية الفنية» و«لا للمرسوم 349» والذي اعتبر تصريحاً وقحاً وغير دبلوماسي لسفارة أجنبية. بينما صرح السكرتير المساعد للحكومة الأمريكية لشؤون النصف الغربي من الكرة الأرضية أنّ «كوبا يجب أن تحتفل، لا أن تَقمع، التعبير الفني للشعب الكوبي». كما قام الاتحاد الأوروبي بالتعبير عن قلقه للسلطة الكوبية إزاء الموضوع.
ضد «القبضة الخفية» لرأس المال
في السياق، نشر الصحافي والجامعي الكندي «أرنولد أوغست»، وصاحب كتب عديدة عن كوبا، مقالة تحت عنوان «السياسات الثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية: اليد الخفية للسوق». في المقال نقد للمنطق الليبرالي القائل بانفصال الثقافة عامة، والفنون، عن الأرضية الاقتصادية السياسية التي تتحرك ضمنها، وعن وهم الحرية الليبرالية الفردية، الذي يخضع لسلطة الدعاية الرأسمالية وأدوات صناعتها الثقافية من الإعلام إلى الأكاديمية والتعليم، إلى مجمل فضاء الوعي والأفكار. المقال المنشور بالإسبانية الشهر الماضي (آذار) أعيد نشره بالإنكليزية منذ أيام (في 15 نيسان) على موقع «تيليسور» اللاتيني، يشير إلى المنطق العنجهي للولايات المتحدة التي تعتبر نفسها «المدينة فوق التلة» التي تمارس العنف الفكري إلى جانب العنف الاقتصادي- السياسي، وكذبة «الحرية» التي في جوهرها نشر لمفاهيم الفردانية الأنانية وقيم السوق، و«الجمال» الفارغ من أي مضمون تقدّمي اجتماعي. أعاد الكاتب بالتذكير بكتاب «فرانسيس ساوندرز»: «من دفع للزمّار: السي آي إي والحرب الباردة الثقافية» (المقصود بالزمار: هو عازف المزمار) حول دور وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في تمويل وتأسيس الأذرع «الثقافية» عالمياً عبر تمويل ودعم أكاديميين وصحافيين وفنانين ومنشورات عالمية في أغلب دول العالم، من أجل نشر «الحلم الأمريكي» ضد «الشمولية الاشتراكية» والترويج للفردانية ومفاهيم النجاح الرأسمالي (صدر عربياً عن دار الطليعة الجديدة- سورية، والمركز القومي للترجمة- مصر). ويشير الكاتب أيضاً إلى موقف نائب وزير الثقافة الكوبي السابق «فرناندو روجاس» حول المسألة، أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة (إلى جانب «إسرائيل») التي رفضت (بموافقة 148 دولة) في العام 2000 في باريس إعلاناً لليونسكو حول حماية ونشر التنوع الثقافي، حيث يحق للدول أن تحمي تراثها الثقافي غير الملموس. هذا تعبير صارخ عن موقف الإمبريالية من مسألة الثقافة ودورها التقدمي والاستقلال الوطني، والتي خصصت في العقود الثلاثة الماضية مليار دولار (الرقم المعلن) للتأثير على الثقافة في كوبا. ويشير المقال للصحافية الأمريكية «كارين والد» التي خَبرت خمسة عقود حول كوبا، وقامت بتحقيق عن المرسوم 349 قائلة: إن الحملة تستند إلى «فنانين زائفين» كمكونات للمعارضة في الصحافة الغربية، أغلبهم غير معروف في كوبا، مضيفاً موقفاً لـ«سمير أمين» أنه إذا اضطر الأمر تُساعد «القبضة الخفية» تلك «اليد الخفية» للسوق الحرة.
درع الشعب
قد تكون نسب من النقمة قد تراكمت نتيجة الحصار الطويل، ولكن لا يعني ذلك تفجيرها من خلال شعار «حرية التعبير»، وضرب الثقافة والتماسك الوطنيين عبر مجموعات بعضها من أسموا أنفسهم «ناشطين» داخل كوبا من المرتبطين بالغرب، فالثقافة هي «درع الشعب» كما قال فيديل كاسترو مرةً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 910