وتساقطتْ أوراقُ الليمون!
مُزارع حمضيّات في الساحل السوري، تعرّض بستانه المزروع بأشجار الليمون إلى موجة صقيعٍ حادّة أدّت إلى تساقط أوراقه، لكن ثماره الناضجة بقيت تتلألأ صامدةً على أغصانها. شكلها الخارجي في غاية النضارة والمعافاة، لكنها من الداخل جافّة تماماً ولا تعصر قطرة واحدة. سبعة أيام لم يحلق خلالها ذقنه وهو يدور متنقّلاً بين معارفه من مهندسين زراعيين وصيادلة مختصّين بمعالجة الأمراض النباتية لاستشارتهم، ولكن دونما فائدة.
أحضر عشرة عمال (ستة رجال وأربع نساء) ليقوموا بجني المحصول البالغ وزنه عشرة أطنان. وبعد أن فرغوا من عملهم وعبّأوا المحصول في عشرات الأكياس، طلب منهم- وهو يقضم طرف شاربه بشيء من العصبية- نقل الأكياس إلى طرف البستان عند حافة الجرف الصخري المطلّ على نهر القرية.
استغرب العمال طلبه وقالوا له في حيرةٍ وارتياب:
لكن الطريق على الجانب الآخر من البستان!
إلاّ أن المزارع أصرّ بحزمٍ على طلبه الغريب دون أن يفصح عمّا يضمره. فما كان منهم إلا والاستجابة لطلبه ممتعضين. وانهمكوا بنقلها إلى المكان المقصود وهم يبربرون. فقد استغلق عليهم فهم موقفه الغامض المبهم.
وبعد انتهائهم من مهمتهم طلب منهم إفراغ الأكياس وإلقاء محتوياتها في النهر لتلْتهمها المياه الجارية.
شخصوا ببصرهم إليه واجمين مبهوتين وهم في حالة عُظمى من الدهشة. كرّر طلبه بلهجةٍ حاسمةٍ وبصوتٍ أعلى، جُوبهَ بهمهماتهم المحتجّة. لم ينتظر عليهم، هبَّ مندفعاً بلهْوجةِ المطارَد نحو الأكياس غير عابئٍ بتلكّئهم. وبدأ بدلْقِ ثمار أوّل كيسٍ من الليمون إلى مجرى النهر الذي جعلت مياهه تتفاقع وتتواثب صخاباً، وسط صياح العمال واستنكارهم.
وقف قليلاً والزفرات تهزّ صدره، وأخذ يمسح جبينه المبلّل بالعرق رغم برودة الطقس. وأومأ لأحدهم ملوّحاً بيده في استهانة بالاقتراب وقال له بلهجةٍ آمرة:
اخترْ أيّة ليمونة واقسمْها نصفين وحاولْ أن تعصرها.
وتراجع المزارع خطوة شابكاً ذراعيه على صدره وعاقداً حاجبيه، وطفق يقلّب عينيه في تطلّع المنتظِر.
اقترب العامل المومأ إليه بعد أن رمقه بنظرة متردّدة متعجّبة، وبسكّينه الحادّة قسم ليمونة وحاول عصرها وسط ترقّب الحضور. لاحت الدهشة على وجه العامل! إذ لم يتمكّن حتى من ترطيب أصابعه منها بسبب جفافها. لكنه لم ييأس، وقال للمزارع بنبرةٍ مواسيةٍ مهوّناً عليه، ومحاولاً زرع جنين الأمل لديه:
ومع ذلك، يمكنك يا أخي بيع المحصول ولو بسعرٍ زهيد..
أجابه المزارع بصوتٍ مأتميّ بعد تنهيدةٍ واهنة:
تخيّلْ لو أنك اشتريت كيلو غرام ليمون من أحد الباعة ولو بسعرٍ زهيد، ووصلْتَ بيتك وبدأت العصر دون جدوى.. ألن تشتم البائع والزارع وحظّك و..؟
أجابه العامل بانهزامٍ خفيّ: أكيد.
تابع المزارع وهو يمسح بداية عبرات سالت من عينيه:
عوضي على الله يا أخي. صحيح أن تعبَ عامٍ كاملٍ ذهب أدراج الرياح، لكنّ أخلاقي لا تسمح لي أن أغشَّ أحداً أبداً. زدْ على ذلك إن تكلفة فرز الليمون وتوضيبه وثمن الصناديق وأجور النقل وعمولة السمسرة.. ستضاعفُ خسارتي. (وختم منتقداً الحكومة بالقول): وطبعاً المسؤولون غير مكترثين بنا، هذا إن لم يكونوا شامتين! (قطف ورقةً متبقّيةً من غصن شجرة ليمون وفركها بأصابعه وقرّبها من أنفه مستنشقاً عبيرها. وألقى نظرة متأمّلة شاملة على بستانه. واستطرد بعد تفكير) وكأن ثمّة من يدفعني إلى قلع أشجار الليمون والاستعاضة عنها بأنواعٍ أخرى.. ثم من يضمن ذلك الذي يخرّب هذا البلد بشكل ممنهج، ألا يلاحقني ويجترح طرائق وفنون جديدة للإجهاز مجدّداً على مشروعي البديل؟ (رفع يديه إلى السماء هاتفاً بقهر) يا ربّ إلى متى هذا البلاء!؟ أيّ ضَيْمٍ هذا، بل أيّ كفر!
انتشر شرر الذهول الغاضب بين العمال ورانَ صمتٌ ثقيلٌ بينهم. لا يشوبه سوى زقزقة العصافير وخرير السواقي التي تصبّ في النهر الهادر، وهزيم رعدٍ عميق، وعويل رياحٍ في الأفق البعيد. تطلّعوا ببعضهم وكأنهم يستفتون قراراً عفويّاً اشرأبّ لتوّهِ في دواخلهم. دنا أكبرهم سنّاً من المزارع ووضَعَ يداً مشفقة على كتفه، وقد لعبت في رأسه نخوة الرجال الذين لا يُحجمون عن جلائل الأعمال، وقال له بصوتٍ رخيمٍ يفيض عذوبةً ورقّة:
نقدّر وجعك يا أخي، ولن تكون أنبل وأكرم منّا، سنعتبر أنفسنا أشقّاء لك في محنتك. مصابُك لا تحتمله الجبال. وسنكتفي بنصف الأجر الذي اتفقنا عليه.
فتح ذراعيه مقترباً أكثر من المزارع وعانقه بمحبّة وسط زغردة النساء العاملات. وعلى الأثر تحرّك باقي العمال وشرعوا بمصافحته والبسمة تعلو وجوههم السمراء، وهم يبثّونه عبارات التعاطف والتضامن والتفاؤل الصادقة.