صلاح الدين.. «شخصية غير قلقة في الإسلام»
ليلى نصر ليلى نصر

صلاح الدين.. «شخصية غير قلقة في الإسلام»

منذ النبوّة وحتى المراحل الأخيرة من الدولة العباسية انتقى المفكر العراقي هادي العلوي، خمس عشرة شخصية إسلامية (غير قلقة) وفق تعبيره، من رجال السلطة والمعارضة والأدب والعلم، من بين هؤلاء كان «الملك الناصر» صلاح الدين الأيوبي...
«التاريخ أولاً: هو تاريخ السياسة. والسياسة يسيرها أفرادٌ: الحكام والساسة، من خلال التكامل أو الصراع مع الأمة- الجمهور. وهو من ثمّ صناعة مشتركة للأمم والملوك. وسيرة الحكام والساسة والثوار والمعارضين مندمجة في الجمهور بوصفه الوعاء الحاوي لفعالية الفرد: المكيّف له، والمتكيّف معه في آن واحد»...

هذا ما قاله هادي العلوي، في تقديمه لكتابه: (شخصيات غير قلقة في الإسلام)، الذي انتقى فيه شخصيات، من مراحل متعددة في العصر الإسلامي، يرى في سيرتها تكثيفاً لمراحل وسمات شخصية، نموذجية، تقدم نماذج، مضيئة، تتجلى فيها ميزات الفرد المسيّس ضمن المرحلة، ووسط الصراع.
فما الذي رآه في صلاح الدين؟! سنبدأ من المرحلة إلى دوره فيها، وصولاً للسمات الشخصية.
الأجواء السياسية لنشأته
عاش صلاح الدين الأيوبي، ستين عاماً تقريباً، في مرحلة انحطاط الدولة العباسية، في أواخر القرن الخامس الهجري: 1138-1193م. حيث كانت الخلافة العباسية المتهاوية في حينها، لدى المستنجد بالله، الذي استقل في العراق وجوارها بصعوبة، تحيط به الدويلات المستقلة، التي بعضها يخطب للخليفة، ويقيم علاقة شكلية مع الحكم الإيديولوجي- المذهبي له، كما في حكم الأسرة الزنكية في الشام، وبعضها مستقلٌ عنه يخطب لخلفائه المستقلين بإيديولوجيا مذهبية إسلامية مختلفة غالباً، كما في حكم الفاطميين في مصر، حيث كانت المذاهب الإسلامية التعبير والحامل الإيديولوجي للخلافات السياسية.
كان صلاح الدين الشاب قائداً عسكرياً في جيش نور الدين الشهيد- كما لقبّه العامة رغم وفاته على فراش المرض- وهو نور الدين زنكي حاكم الشام، في عهد الأسرة الزنكية. تلك التي تولت محاربة الإفرنجة، في هجمات القرون الوسطى الأوروبية على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، وعلى مصر.
وإذا ما كانت الشام في حينها، تحارب الغزو الغربي، فإن مصر التي كانت تحت حكم الدولة الفاطمية، كانت أيضاً في صراع معهم. يحكمها الخليفة الفاطمي العاضد بالله، الذي كان له وزير يدعى شاور، انقلب عليه وتحالف مع الإفرنج. فاستنجد العاضد بنور الدين ليرسل القائد العسكري البارز أسد الدين شيركو، وهو عم صلاح الدين، إلى مصر، على أن يستوزره عليها، ليكون حاكماً بينما يبقى العاضد خليفة. وقد أتى هذا الاستنجاد بعد أن دخل شاور والإفرنج القاهرة، فنهبوها وبقيت النار تعمل فيها أربعة وخمسين يوماً... ومع دخول شيركو وجيوش الشام، قام أهل القاهرة باستقبالهم، وحرق دار شاور والانتقام من خيانته. توفي شيركو بعد شهرين من دخوله مصر، وخلفه صلاح الدين، الذي استلم صلاحيات الحكم من العاضد، ذاك الذي لقبه بالملك الناصر. وكانت هذه العلاقة هي طبيعة الحال في تلك المرحلة، التي أصبح فيها القادة العسكريون هم الحكام الفعليون، والخلفاء هم الواجهات الإيديولوجية، في وضع المصون غير المسؤول.
حافظ صلاح الدين على الخطبة للعاضد بالله، وبالتالي على المذهب المتّبع في الخلافة الفاطمية، إلا أن قائده نور الدين زنكي في الشام، أراد له أن يغير الخطبة، وبالتالي المذهب العام، لأسباب سياسية تتعلق بالعلاقات بين الشام وبغداد. فكانت في مرحلته نهاية الخلافة الفاطمية، وبداية المرحلة الأيوبية في حكم مصر والشام، التي كانت تتبع في الإيديولوجيا والخطاب، للمذهب المتبع لدى الخلافة العباسية.
أما سياسياً فإن هذه المرحلة، كانت المرحلة الوحيدة تقريباً في عصر الانحطاط التي عاد فيها التوحد بين الشام ومصر، على أساس قضية جامعة، هي مواجهة الغزو الأوروبي... وكان لهذه المرحلة قائدها الأبرز، وهو صلاح الدين الأيوبي، الذي استطاع أن يحقق خرقاً في مسار التراجع المستدام في تلك المرحلة.
المعارك والتحرير
معارك صلاح الدين عديدة... وقد تركزت في سواحل الشام حيث كان الغزو الأوروبي قد وجد نقاطاً وقِلاع استقرار، وتوغل شرقاً في القدس، وفي الأردن وصولاً إلى الكرك على طريق الحج. استطاع صلاح الدين أن يجمع قوات لمواجهة الغزو الأوروبي، من مصر والشام وحلب، وكردستان، والجزيرة، وكان الأوروبيون عموماً أكثر عدداً في كل المعارك. المعارك التي بدأت قرب بانياس في معركة مرج عيون، ولم تنتهِ في حطين بين طبرية وعكا، التي أسر فيها جميع حكام المدن المحتلة من الأوروبيين، إلّا حاكم طرابلس الذي انسحب قبل نهاية المعركة. واستعاد فيها قلعة طبرية، وعكا وصيدا وبيروت وغزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي الغور، ومجمل خمسين مدينة وموقع، ثم حاصر القدس، حتى دخل محتلوها في مفاوضات استسلام، وخرجوا منها. بعد حطين خرج إلى اللاذقية، وجبلة واستعادها، ولكنه عجز عن فتح أنطاكيا، وقبل بعرض الهدنة، ثم عاد ليفتح صفد وصور. وقبل مماته كان صلاح الدين قد حرر كل مدن الشام ومصر من الغزو الأوروبي، إلّا أنطاكية وطرسوس قرب مرسين في تركيا.
إن معارك التحرير التي قادها صلاح الدين، كانت استثناءً في ظروف المنطقة في مرحلة الانحطاط تلك.. وكانت مبنية على ركنين، الأول: القضية الجامعة بمواجهة الغزو الأوروبي التي مكنت من توحيد مصر والشام واستخدام القدرات من المنطقة كافة رغم تداعي الدولة الإسلامية في حينها. والركن الثاني: كان يرتبط بسماته وقيادته، والتوافق الشعبي الواسع حوله... وهو ما يأخذنا إلى جوانب شخصيته.
شخصيته وخصاله
الشاب العائد إلى أسرة كردية عريقة، من أصول أذربيجانية، ولد في تكريت في العراق، ونشأ في دمشق، وحارب في مصر والشام، وحكم بنفوذ وصل اليمن. وكان لهذا الإرث العائلي القادم حديثاً من الجبال، أثر في تكوين شخصيته: علاقته بالجمهور، وسلوكه السلطاني، وطبيعة قيادته العسكرية...
فصلاح الدين كان سلطاناً ذا شعبية!.. والخلفاء والملوك والسلاطين بعد حكم الراشدين، لم يكونوا يوماً موضع شعبية، ولكنه كان من بين قلّة استثنائية، وتحديداً من بين القادة العسكريين في مراحل انحطاط الدولة العباسية. أحبته العامة ليس كبطلٍ مُهابٍ فقط، بل كحاكم.
وكان كردياً عسكرياً جبلي الوجدان، ولكنه إسلامي الثقافة، أي: قادر في شخصه على الجمع بين متطلبات الإيديولوجية الحاكمة الإسلامية، وبين التدين الشعبي. ما انعكس أيضاً في سلوكه كقائد غير «سلطاني»: بمعنى الاستبداد، والبذخ. فلم يترك وراءه في خزانته سوى دينار واحد، كما لم يبذخ على القصور. وفي عهده لم تستبح المدن، كما أظهر التزاماً صارماً بقوانين الحروب المتبعة، ففي حطين مثلاً تم التعامل مع الأسرى وفق منطق محدد، فمن كان من بين فرسان الدواية والاسبتارية وهم نخبة الفرسان الأوروبيين كان يعدم، بينما أرسل بقية الأسرى إلى دمشق للاعتقال، وفي القدس خرج المحتلون منها، مقابل تعويضات مالية عن كل شخص.
وكان لتعامله مع جيشه تكتيك دائم، للاستراحة المنظمة، بين المعارك الكبرى، وكان هذا قطعاً للتعامل المتبع منذ العهد الأموي، بنمط علاقة العبودية في الجيش. بالإضافة إلى توزيع غنائم الإفرنج، على الجيش والمقاتلين... حتى أن البعض رأى أن لطريقة المداراة هذه مردوداً سلبياً على وتيرة القتال، بينما يرى البعض أنه واحد من أسرار درجة تنظيم جيشه، وإنجازاته.
ديمقراطية ثقافية
واحدٌ أيضاً من محددات طبيعة حكمه، والمرحلة، هو الظواهر الثقافية التي احتواها حكمه، وأنتجت في عهده، وكان أبرزهم موسى بن ميمون أكبر فلاسفة اليهود في العصر الإسلامي، الذي كان من أهل الاندلس، وهناك لم يستطع أن يعلن دينه، بينما عاد لدينه في القاهرة وبحماية صلاح الدين. يضاف إليه الوهراني، الذي كتب في الدهاء السياسي، وفي النقد السياسي، تناول أرباب الدولة بدءاً من أخوة صلاح الدين، وندد بالفقهاء والقضاة، وكان يُلاحق أموال فساد الحكام في نقده... ولا يمكن أن يكون هذا إلا بحماية الملك الناصر، وبتكليف منه. وقد سادت أدبيات النقد السياسي في عهده، فكان منها ما كتبه عبد الرحمن بن نصر إذ افتتح كتابه: «النهج المسلوك في سياسة الملوك» إذ قال:
«اعلم أن الجَورْ هو العدول عن الحق، واستمراره يحل نظام الطاعة من الرعية، ويبعثهم على ترك النصيحة، وعدم النصرة، ويحملهم على نصب الغوائل وتربص الدوائر. وليس شيء أسرع إلى خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق منه...».