الذاكرة الكرزية لبلدة كسب
تسرد رواية «الفم الكرزي» حوادث وقعت في بلدة كسب في محافظة اللاذقية بين عامي 1938-1946، من قصة الحب التي جمعت بيرانيك فاهيان مع جواد الصفصافي، إلى نضال الشيوعيين في كسب ولواء اسكندرون ضد الاستعمار الفرنسي والفاشية، ونشوء الخلايا الشيوعية الأولى في مدينة اللاذقية بين عمال الريجي والميناء.
جواد الصفصافي هو الاسم الحركي للأديب الراحل حنا مينه، الذي أرسلته قيادة الحزب للإشراف على عمل منظمة كسب في فترة العمل السري وتعرُّضِ الشيوعيين إلى الملاحقة والاعتقال على يد البوليس الفرنسي ورجال حكومة فيشي والجنرال دانتز الفاشيين.
قال حنا مينه عن نفسه:
إنني نِصفان: نِصفٌ مجنون ونصف عاقل. ولكنني مُتيّم بالنصف المجنون. أنا كاتب المناطق المجهولة وكل التجارب التي عشتها، عشتها بعفوية ولم أختلق في يوم من الأيام موقفاً لأكتب عنه.
أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيَّيْن.
أنا خريج سجون، ولست خريج معاهد وجامعات. نُفيت من الوطن ثلاث مرّات، وسُجنت بعدد شعر رأسي.
الفم الكرزي لبيرانيك فاهيان
الفم الكرزي رواية من الأدب الواقعي، تحمل القارئ في زيارة لسلسلة من الصور الفوتوغرافية أو المشاهد السينمائية المخبأة بين السطور والصفحات التي تغوص كلماتها في الحياة الاجتماعية.
كانت أحداث الرواية في كسب، وفي ظروف النضال الوطني الذي كان يحدث في أحياء حلب وأزقة بيروت وحي الميناء في طرابلس. وهناك وقع جواد الصفصافي بطل الرواية في حب بطلة الرواية: بيرانيك صاحبة الفم الكرزي. وقع الاثنان في الحب في ظروف صعبة قلقة لا تريد هذا الحب، فجواد ملاحق من رجال البوليس الفرنسي، وبيرانيك راحلة إلى أرمينيا.
قال جواد: ما رأيك يا حبيبتي أن نتزوج؟ «سأفكر في ذلك يا حبيبتي»، ومتى الجواب؟ بعد الاستقلال: تصير الفرحة فرحتين.
كانت مهمة النضال من أجل الجلاء والاستقلال ورحيل القوات الأجنبية عن سورية فوق كل شيء عند الاثنين. استدار جواد، استدارت بيرانيك، تماسكا بالأيدي، بقيت بينهما مسافة، برقت العيون، تكهرب الجسدان، خفق القلبان، ابتسما وضحكا، شدها إليه، فقالت: نسيت أننا على الشرفة، وبيننا مسافة، كلانا ملزم بالمحافظة عليها.
قالت بيرانيك: طوق خصري بزنار من نار، وكانت قبلة الفم الكرزي التي لم يكتب لها الاستمرار كقصة حب. سافرت بيرانيك إلى أرمينيا بعد الاستقلال، وفضلت أرمينيا على حبها، وتوجه جواد إلى اللاذقية ليعمل هناك.
الفم الكرزي ليست رواية عاطفية ما، وأن كانت العاطفة حاضرة، لأنها رواية تتحدث عن مرحلة خاصة من مراحل النضال في سورية، وفي منطقة محددة هي كسب، حيث كان نضال الأرمن جزءاً من النضال العام الذي خاضه الشيوعيون، في حركة تنبض بالحب والحياة والاجتماعات الحزبية السرية وتحدي السجن والاعتقال والملاحقة. وقد ترجمت الرواية إلى اللغة الأرمينية لاحقاً.
شخصيات من ذاكرة كسب
دخلت الأفكار الشيوعية إلى لواء اسكندرون مبكراً منذ عام 1922 على يد اتحاد سبارتاك الأرمني، ولعب الشيوعيون دوراً في اندلاع انتفاضة فلاحي جبل موسى ضد أعمال السخرة عام 1925، وقادوا المظاهرات في أنطاكيا واسكندرون وأرسوز ضد سلخ اللواء، ومن هناك وصلت الأفكار إلى بلدة كسب التي ساهمت في النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي والفاشية، وفي سبيل الاستقلال والجلاء، والدفاع عن مطالب الناس.
تعرضت منظمة كسب إلى الاعتقال والملاحقة، وقدمت منظمة اسكندرون شهيدين في مواجهة الاحتلال، وبعد انتصار الجيش الأحمر على الفاشية عام 1945 حدثت مظاهرة كبيرة في كسب احتفالاً، وشارك أعضاؤها في معارك الجلاء وطرد الفرنسيين.
تخبرنا رواية «الفم الكرزي»، بأسماء هؤلاء البسطاء الذين صنعوا جزءاً من تاريخ بلادنا، من بطلي الرواية جواد الصفصافي مسؤول منطقية كسب وبيرانيك فاهيان التي أمنَّت حماية الملاحقين، وعامل مرفأ اسكندرون قاسم رضوان وسركيس ماخيان مسؤولا الحزب الشيوعي في لواء اسكندرون، والشهيد خضر العبد الله الذي قتله البوليس الفرنسي.
إضافة إلى أسماء عديدة مثل دكران ألطونيان عامل بلدية كسب الذي اعتقل لكتابته العرائض المطلبية، وأودايس حنانيان الحداد ومسؤول منظمة كسب الذي أخفى وراء ورشة الحدادة تنظيماً كاملاً، والرفيق كيورك عامل سنترال كسب الذي خدع البوليس الفرنسي، والرفيقة ماراتيان حاملة الرسائل الشفهية السرية، وبوغوص ستراكيان حارس المقر السري، وبدروس قره بيتان الذي اعتقل أيام الحكم الفاشي، والرفيقة نوباريان قائدة المظاهرات النسائية، والرفيق كسبار مراقب تحركات البوليس الفرنسي في كسب، والرفيق بغداسيان حامي الرفاق الملاحقين في جبال كسب واسكندرون، والرفيق نوبار الذي شارك في معارك انتفاضة الجلاء في حيّ القلعة في اللاذقية وغيرهم من أبناء بلدة كسب الجبلية في اللاذقية الذين غادر معظمهم إلى أرمينيا سنوات 1946- 1947، واختفت أخبارهم لتظهر مجدداً كذكريات على يد حنا مينه في رواية «الفم الكرزي» عام 1999.
الدركي أبو الفقراء
بعيداً عن أحداث الرواية، وقريباً من التاريخ الاجتماعي لبلدة كسب، وفي زمن أسبق يعود إلى زمن الحرب العالمية الأولى، شارك 40 ألف متطوع أرمني في كسب وجوارها في انتفاضة ضد العثمانيين دفاعاً عن أنفسهم.
وفي حدث آخر، جرت أول انتخابات نيابية في سورية عام 1947، وسافر حنا مينه إلى كسب لتنظيم عمل المنظمة الشيوعية فيها لإسقاط أحد المرشحين الرجعين ونجحت في ذلك. لم يذكر حنا مينه هذه الحادثة في روايته.
في عام 1955 كان حسين المشعان دركياً ورئيس مخفر حدودي في كسب، ولعب دوراً في الدفاع عن الفلاحين ومنع تطاول بعض الإقطاعيين على أراضي المنطقة، وإعادتها إلى الفلاحين الذين أطلقوا عليه لقب «أبو الفقراء».
وفي نفس الفترة اشتدت الضغوطات الخارجية على سورية، وحشد حلف الأطلسي قواته على الحدود، فتطوع الآلاف من أبناء سورية في فصائل المقاومة الشعبية عام 1957 في كل المدن والقرى، وبشكل خاص في المناطق الحدودية الشمالية ومنها بلدة كسب وقراها.
تضافَ القصص الأربع السابقة إلى أحداث رواية «الفم الكرزي»، وتشكل معاً صور من الحياة الاجتماعية والصراع السياسي والطبقي والتاريخ الوطني المغيب إعلامياً لبلدة كسب، لماذا نقول التاريخ المغيب؟ لأن السائد الآن هو إطلاق صفة السياحة والفندقة على هذه البلدة التي قدمت الغالي والرخيص من أجل سورية خلال القرن العشرين.