«الفعل والصورة والديكور»
عند تناغم هذه العناصر الثلاثة فيما بينها، يخلق المعنى وتتوضح معالم شخصيات العمل الفني وسلوكياتها ويكون الحدث قابل أكثر للمنطق والتصديق.
الصورة تقوم بمهمة رئيسة فمن خلالها نرى الفعل بكل ما يحيطه من دوافع.
فهي بحد ذاتها تحمل المعاني العميقة والدقيقة كافة لما يجري أمامنا من حدث.
والديكور يحدد لنا سمات الشخصية وبيئتها، حتى حالتها الاجتماعية والفكرية والنفسية. وبالتالي يمهد لنا مبررات العقل، خاصة عندما يحتوي الديكور على مجموعة من الإكسسوارات التي تكون بحد ذاتها دلالة عن ماهية شخصيات العمل.
ويأتي الفعل بعد كل هذه التمهيدات ليقود شخصيات العمل للصراع فيما بينها، تجري الأحداث بشكل منطقي ومبرر، تتشكل الحبكة والعقدة، ليبلغ العمل ذروته دون الاستخفاف بإدراكات المشاهد أو تجاوز فكره.. مهما كان المشاهد بسيطاً أو مثقفاً.
لقد أبدعت الواقعية الجديدة في إيطاليا في استخدام هذا الأسلوب المتقن للعلاقة فيما بين هذه الثلاثية الهامة.
فمنذ عام 1945 فرضت الواقعية الجديدة نفسها كظاهرة تعطي دوراً وحيداً هاماً لشريحة واسعة من الشعب الإيطالي، فنزلت الكاميرا إلى الشارع والمصانع وجابت بين أحياء الفقراء كما ذهبت إلى القرى النائية والحقول، تجسدت ولأول مرة معاناة تلك الشريحة الواسعة، التي كانت تصارع من أجل حياة أفضل نابذةً واقع الاستغلال من فئة نمت وترعرعت في ربوع الفاشية، واستطاعت الواقعية الجديدة أن تخلق وتشكل مدرسة سينمائية وأدبية جديدة، تأثر بها أيضاً الفنانون التشكيلون والمسرحيون إلى أن امتد انتشارها خارج حدود إيطاليا. كان من أهم روادها (تشبزري زافاتيني، فيتوريودي سيكا، روسيليني، نيسكونتي... إلخ).
ومن الأعمال الهامة التي أجادت تلاحم وتناغم الثلاثية (الفعل والصورة والديكور) هو فلم الرز المرّ «RISO AMARO» الذي أخرجه وكتبه جوزييه دى سانتيس وبمشاركة خمسة كتاب أخرين. كتب الفلم عام 1948 وبعدها وفي عام 1950 حصل على جائزة أوسكار لأفضل سيناريو. وتحكي قصة الفيلم عن معاناة الفلاحين الفقراء واستغلال جوعهم وفقرهم هذا للسيطرة عليهم وفرض شروطهم المجخعة بحقهم، بل لنيل نزواتهم البشعة منهم، ذلك من خلال وسطاء بلا رحمة تقودهم شخصيات من مخلفات الفاشية.
وإليكم مقتطفات من أحد مشاهد هذا الفيلم:
الشخصيات هم:
ماركو: كان رقيباً أول في الجيش، شخص حكيم وشهم وهو صديق لكل من فرانشيسكا وسيلفانا.
فرانشيسكا: فتاة تناضل ضد القمع الاجتماعي والتفاوت الطبقي وتحارب فئة المحتكرين لكونهم كانوا من المستفيدين من الحكم الفاشي.
سيلفانا: فتاة جميلة لكنها ساذجة واستعراضية تواقةٌ أن تحقق أحلامها ولو على حساب غيرها من الناس.
فالتر: شخص مجرم بلا رحمة، يخدع سيلفانا بحبه لها ذلك ليستخدمها كوسيلة لنيل غاياته الجشعة.
استطاع المخرج جوزييه دي سانتيس (وبطريقة مقنعة) أن يجمع هذه الشخصيات في براد مسلخ للحوم وبهذا المشهد يكون ماركو مصاباً في كتفه من جراء سكين فالتر، كما كان فالتر نفسه مصاباً بطلق ناري في معصمه أطلقته عليه فرانشيسكا، كما تكشف في هذا المشهد أيضاً سيلفانا خداع فالتر لها بعد أن قادها بطريقته الإجرامية لتسبب الكثير من الأذى لسكان القرية البسطاء.
المشهد /49/ داخلي- مسائي- براد المسلخ
فالتر: اقتليها سيلفانا.. بسرعة.. اقتليها.
توجه سيلفانا مسدسها بدون إرادهٍ، ثم تمرره إلى اليد اليسرى وتبحث في صدرها، تسحب خارجاً العقد.. وترميه نحو فرانشيسكا.
سيلفانا: لا تتقدمي أكثر,, ها هي المجوهرات.. إنها كل ما نملك.. خذيها ودعونا نخرج من هنا.
تتقدم فرانشيسكا عدة خطوات وتخفض سلاحها بكل برود وثقة بالنفس. أصبح العقد في الأرض قرب قدميها.. فتقذفه بركلة فينزلق حتى تبتلعه (البالوعة). تقترب فرانشيسكا خطوة أخرى.
فرانشيسكا: العقد مزيف.. لا يساوي شيئاً، وهو يعرف ذلك جيداً.. من أجل هذا وهبك إياه.. لقد استخدمه كي يغرر بك إنه مزيف مثله.
ينظر فالتر بعصبية محرضاً سيلفانا على إطلاق النار.. لكن الفتاة ترفض، عندها يستجمع فالتر كل قواه وهو يستند إلى الحائط محاولاً الهروب إلى الداخل.. تهتز أمامنا سيلفانا أخيراً هذه الصورة الإيجابية وهذا الوهم الكبير الذي أحاطها به فالتر.. فتقفز إلى الأمام وتفرغ عليه طلقات المسدس. لقد تلقى عدة طلقات في الظهر.. فيصرخ بشدة وهو يرفع يديه عالياً فتعلق في إحدى السنارات (التي يعلقون بها الحيوان بعد سلخه، وهكذا تتحرك البكرة التي تسير على السكة من الأعلى فينتقل معها الجسد المدلى بنقله إلى الأمام لعدة أمتار.. يبدو فالتر الأن بجسده المعلق يشبه إلى حد كبير واحدة من هذه الحيوانات المذبوحة).
نرى في هذا المشهد كيف جمع المخرج بشخصياته في ديكور براد اللحم مع الحيوانات المذبوحة والمعلقة بداخله. تبادلوا إطلاق النار فيما بينهم، من سيموت بداخله مثل الذبائح! وبالفعل مات فالتر المجرم على يد عشيقته المخدوعة بعد أن سقط قناع الذئب عن وجهه. كانت سيلفانا دائماً مُسيطراً عليها من قبله وتخشاه، لكنها هذه المرة تحررت من خوفها هذا، وقتلته بدم بارد مثل برود المكان الذي تفوح منه رائحة الموت والدم. ويمتلك هذا المشهد مجموعة من الأفعال:
تركل فرانشيسكا العقد المزيف في البالوعة لأنه مزيف مثل فالتر المخادع.. وكأنها تقول لها: إن فالتر المزيف يجب أن يواجه نفسه نهاية هذا العقد.
تتقدم فرانشيسكا نحو سيلفانا التي تصوب مسدسها نحوها، دون خوف لأنها تستمد شجاعتها هذه من الحق الذي لطالما دافعت عنه وفي مواقف عدّة.
سيلفانا التي عاشت حياتها متصنعة دون هدف سوى لفت الأنظار إليها، يمنعها ويصدها الباطل الذي يعيش داخلها من أن تطلق على فرانشيسكا (مواجهة بين الحق والباطل).
يأتي فعل فالتر طبيعيّاً بالنسبة لرجل زائف، هو أن يترك المكان وسيلفانا لينجو بحياته وحده، خاصةً بعد فشله بتحريض سيلفانا لقتل فرانشيسكا.
ويأتي فعل سيلفانا بإطلاق النار على فالتر وتعليقه جثته مع بقية الحيوانات ليس قتله فقط، بل قتل ماضيها معه وكل ما اقترفته من أذى للغير بتحريض منه، وبالفعل فإن آخر مشهد في الفيلم هو انتحار سيلفانا برمي نفسها أمام أعين كل من تسببت بأذى. انظروا كم من الأفعال والدلائل والرموز التي يحتويها هذا المشهد. وكل هذا نراه بإطار صورة معبرة جداً فكانت من حدث لحدث ومن لقطة إلى لقطة وتتغير أحجام اللقطات حسب الحالات النفسية للشخصيات وإيقاع المشهد. لقد حققت الثلاثية وبعناية شديدة (الفعل- الصورة- الديكور).