حول سؤال «لماذا نعيش؟»
يعتبر المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: أن التيارات المثاليّة تاريخيّاً هي من توسّعت في المسائل المعنوية والنفسية للذات الإنسانية، لاعتبارها كمثالية ترتكز على أساس الوعي في التاريخ، والتأمل في الوعي الذاتي الذي أُنتج على أساسه ما يتم ترديده على مسامع المجتمعات من توصيف للنفس البشرية وحاجاتها وقوانينها.
لقد أدى هذا التوسع المثالي إلى تأسيس مقولات الفكر الليبرالي، لتسود في التيارات العلمية الأيدولوجية السائدة. وجوهرها مقولا الفكر الفرداني، مشكلةً مضمون الضخ الأيديولوجي اليومي في الإعلام، ووسائل التواصل كالصفحات الموظفة لهذه الغاية مثلاً، على شكل اقتباسات «بريئة» و«علمية»، ومن خلال الملايين من الأوراق البحثية المقصود فيها: تعميم مقولات تشكّل أفق ممارسة الأفراد في أهدافهم الكبرى، ونمط تحقيقها، وما يحكمها من علاقات مع الآخرين يتمحور حولها مفهوم الفرد عن نفسه كذلك. هذا المستوى المعنوي يشكل جوهر حرب نفسية وفكرية لتلبيس الحياة المعنوية للفرد لبوساً مشوّهاً يلتقي مع أهداف تثبيت الواقع، أي: إظهار إمكانية تحقيق تلك الأهداف في ظل الواقع الرأسمالي نفسه، الذي كبنية استغلالٍ طبقي، وهنا ترتد الأهداف ضد حاملها، فلا هي تتحقق من جهة ومن جهة أخرى تساهم في محاولة تحقيقها في تثبيت الواقع التهميشي نفسه.
لهذا يدعو غرامشي القوى الجذرية لكي تطرح وجوداً إنسانياً جديداً يحوي مضمون بناء المجتمع الجديد الخالي من الاستغلال وممارسة الأفراد فيه، فالوجود الاجتماعي للفرد، هو وجود ملموس يرتبط بقضاياه اليومية التي تحقق القضايا السياسية والاقتصادية الكبرى. ولهذا يدعو غرامشي مثلاً لكي يتضمن الفكر المادي المسائل النفسية والمعنوية، ولا يُترك الميدان للفكر المثالي، أي: ما هو ضروري لمرحلة بناء الدولة اللاحق لمرحلة التغيير، والدعوة إليه، التي تكوّن قضية توحيد قوى اجتماعية على هدف التغيير، وخوض معركة هذا التغيير (السّلطة) السّابقة لمرحلة البناء.
التناقض الاجتماعي
المنفجر وجديده
إن الهامش التاريخي الشعبي الذي انفتح في القرن الماضي على ضوء الثورات الاشتراكية، والتنازلات في الدول الإمبريالية، هو الذي دفع بحاجات معنوية للتقدم ومحاولة الرأسمالية التحايل في إشباعها بالشكل الليبرالي الوهمي، الذي ينغلق اليوم مع انفجار الأزمة الرأسمالية. ولكن تَرِكة المرحلة الليبرالية ونمط العلاقات الرأسمالية تفرض اليوم- عكس القرن الماضي- أن تحمل قوى التغيير طرحاً، وتقدم حلولاً للقضية المعنوية، كمسألة تغريب الإنسان. أصبحت الحاجات المعنوية جزءاً من عملية التغيير حتى قبل مرحلة البناء، فالمشاريع الثورية في القرن الماضي عند انفجار الأزمات الموضوعية للرأسمالية لم تضطر للتعامل بشكل واضح مع حاجات لم تبرز وقتها بعد، لدى القوى المقهورة، والتي كانت غالب معاناتها مادية مباشرة كالمجاعة والحرب مثلاً، دون أن ننفي وجود الأخيرة حالياً بل بتداخل مع الحاجات المعنوية.
جوهر القضية المعنوية
تتكثف القضية المعنوية بسؤالٍ: «لماذا نعيش؟» حسب تعبير الكاتب مكسيم غوركي، وضد الموقف المثالي الذي يعتبر الإنسان وحاجاته حالة مطلقة غير تاريخية، يشدد غرامشي دائماً رفضه لمذهب المادية الميكانيكية، حيث إن الإجابة عن السؤال تتعلق بالظروف التي يوجد فيها البشر، وما تقدم لهم من فرص واقعية تنعكس أهدافاً ممكنة تسعى للتحقق. ولكن كمبدأ عامٍ نظري: إن الذات الإنسانية تسعى إلى الاعتراف، على حد تعبير هيغل، أي: البحث عن قيمتها. وليس للاعتراف شكلاً واحداً لدى جميع الأفراد، وبمختلف مراحل تطورهم.
السعي للاعتراف والدور
تختلف مستويات الاعتراف، فقد تتمثل بالعلاقات العاطفية بين الأفراد، أو طلباً لتقدير موهبة وإنتاج فني أو معرفي- علمي، أو بممارسة اجتماعية إنسانية، ولكنها في تنوعها اعتراف نابع من الآخرين (المجتمع)، وكلما كبر حجم الاعتراف كلما كان مردوده المعنوي على الفرد أكبر.
إذاً، مدى الاعتراف يختلف باختلاف ضرورة دور الفرد بالنسبة للآخرين، وكلما اتسع الدور تتعمق ضرورته، ويتسع الاعتراف وتتثبت القيمة. ولكل مرحلة تاريخية قضيتها الكبرى التي تترجم أهدافاً ممكنة، حيث هي الآن تعيش صراعاً طبقياً ممتداً ضد الرأسمالية ونتائجها، حيث وجود البشرية مهدد، موتاً وتهميشاً ومعاناة. والدور الإنساني الفردي الضروري ينبع من هدف تغيير النظام كأساس للمأساة، المتضمّن لمختلف الأدوار، علمية أو فنية أو سياسية مباشرة وغيرها. أليس التناقض الداخلي لليبرالية الفردية يرتكز هنا؟! حيث الذات تسعى للاعتراف، ولكن معزولة عن قضايا المجتمع الذي هو أصل كل اعتراف. والأدوار المعزولة عن الصراع لن تكون إلا وهمية وعابرة، لحظية خاضعة لأهداف فردانية ضيقة ضمن منطق الربح والتّرقي الفردي، يحكمها الترويج والشهرة والدعاية الرأسمالية (الفيسبوك كمنصة للترويج الذاتي الوهمي وحصد الاعتراف مثالاً) التي تفرِّغ العلاقات من هدف مشترك فتصير العلاقات (من ضمنها العاطفية، الصداقة، العائلة) فاقدة للمشترك وترتهن للرابط على أساس الاستهلاك، حيث إنتاج الأفراد المشترك الوحيد(العمل المأجور) مغرّب عنهم ومساهم في معاناتهم. مما يغني العلاقات ويشد البشر إلى بعضهم، ويجعلهم متقاربين (متشابهين) أو متباعدين، هو حجم قربهم هم من قضية حاجاتهم المشتركة والعمل على تحقيقها، وإدراكهم لتأثيرهم على القضية الكبرى، أي: أن يرى كل عامل ومناضل أنه مَنظُور ومُتَابع ليتأكد من تأثيره، كما شدد لينين. ففي مرحلة التغيير(التي نحن الآن بسياقها) يكون صنع التغيير القضية المشتركة (محكوماً بعلاقات إمّا نقابية أو حزبية أو تجمعات)، وفي مرحلة بناء الجديد يصبح المشترك: هذا البناء بمختلف مستوياته.
الجواب عن سؤال «لماذا نعيش؟» ينبع من خوض القضايا المفروضة على البشرية وما يتفرع منها من أدوار علمية أو فنية أو سياسية...فلا معنى لإنسان معزول عن قضايا واقعه التي تعطي لدوره بعده الضروري غير «الأناني»، ونجاح تأدية الدور كمصدر للاعتراف، لتُعطي حياة الفرد ضرورة (قيمة) بمضمون حيّ ومتحرك عكس الروتين والعدمية المحصورة بالفردي الهزيل الضيق. لا انفصال بين تغيير الواقع الشامل وبين تحقيق الذات. أليس كل من صَنَع الجمال كان صراعيّاً، ضد أولئك «القابعين بقبحهم»!