الأحياء والأموات في الواقعية السحرية عند ماركيز!

الأحياء والأموات في الواقعية السحرية عند ماركيز!

في كتابه رائحة الجوّافة يتحدث الكاتب بيلينيو أبوليو مندوزا عن حياة غابريل غارسيا ماركيز من خلال حوار معه.

جمّلت دونا ترانكيلينا (جدة غابريل) الدار- التي سيتذكرها في وقت لاحق باتساعها وقدمها- بحديقة خلفية تسري في هوائها رائحة الياسمين في الليالي القائظة، وبغرف لا تعد ولا تحصى حيث يمكن فيها سماع تنهدات الأقارب المتوفين من حين إلى آخر.
جاءت عائلتها أصلاً من جواجيرا، وهي شبه جزيرة تنتشر فيها الرمال الحارقة، الهنود المهربون والمشعوذون. تحدثت عن أشياء غير عادية باعتبارها أحداثاً عادية تحصل كل يوم. وبالنسبة لهذه المرأة الضئيلة ذات الإرادة الحديدية والعينين الزرقاوين، لم تكن هناك حدود واضحة بين الموت والحياة؛ وعندما أصبحت عجوزاً وأصيبت بالعمى باتت أكثر وهناً لدرجة- أنها قرب النهاية- كانت تحادث الأموات في أغلب الأحيان، وتستمع إلى تنهداتهم ودموعهم وشكاواهم.
عندما كان ظلام الليل- وهو ليل استوائي خانق مثقل برائحة زهور السوسن والياسمين- يُخيّم على الدار، كانت الجدة تجعل غابريل، الذي كان في ذلك الوقت طفلاً في الخامسة من عمره، مسمراً فوق كرسيه، وهو يشعر بالرهبة والخوف من قصص الموتى الذين يحومون حول المكان. كانت هناك الخالة بترا، والخال لازارو والخالة مارجريتا- الجميلة مارجريتا ماركيز، التي ماتت وهي في ريعان الشباب، لكن ذكراها لا تزال حية ومستكينة في أذهان جيلين في العائلة. كانت الجدة تقول للصغير: «إذا تحركت، سوف تخرج الخالة بترا من غرفتها، أو ربما الخال لازارو».
(وحتى هذا اليوم، أي بعد ذلك بنحو خمسين عاماً يتجسد أمام ماركيز لمدة ثانية عندما يستيقظ في منتصف الليل، وهو في غرفته بأحد الفنادق في روما أو بانكوك- رعب الطفولة القديم: أولئك الموتى من الأقارب الذين يحومون في المكان وسط الظلام).
كانت دونا ترانكيلينا تحادث الأموات كما لو كانوا أحياء. والخالة فرانسيسا، والخالة بترا والخالة الفيرا. كل هؤلاء النساء كنّ خياليات، يعشن بصفة دائمة وسط ذكريات بعيدة، كلهن كُنّ يمتلكن قدرات مدهشة، كن يعتقدن في الخرافات شأن خدم جواجير، الهندية. كلهن تعاملن مع الأشياء غير الطبيعية على أنها طبيعية تاماَ، فقد جلست الخالة فرانسيسا سيمونوسي، على سبيل المثال، وهي امرأة قوية لا تعرف الكلل، في أحد الأيام لتنسج كفنها. سألها غابريل: «لماذا تصنعين كفناً؟» أجابته قائلة: لأنني سأموت، يا ولدي!» وفي الواقع، فإنها عندما انتهت من صنع الكفن، رقدت فوق فراشها وماتت.
قامت علاقة صداقة قوية بشكل غريب بين الجد الذي يعيش في العقد السابع من العمر، وحفيده البالغ من العمر خمسة أعوام- وهما الرجلان الوحيدان في منزل كله من النساء.
كان غابريل دائماً ما يتذكر أعز الأشياء للرجل العجوز: الطريقة الهادئة التي يقتعد بها الكرسي على رأس المائدة، وسط ثرثرة النساء المستمرة، وطبق اليخنة الساخن أمامه، جولاتهما عصر كل يوم حول البلدة، والطريقة التي يتوقف بها أحياناً في وسط الشارع بتنهيدة اعتراف مفاجئة (للطفل البالغ من العمر خمسة أعوام): لا يمكنك أن تتصور كم يبلغ وزن رجل ميت؟.
كما يتذكر غابريل صباح كل يوم عندما كان الرجل الهرم يأخذه إلى المزرعة حيث كان يسبح في أحد الجداول، كان ماؤه الشفاف ينساب في مجرى حجارة ملساء بيضاء كبيرة كبيضٍ من قبل التاريخ. كان الصمت المخيم على المزرعة، والرجل المسن يتحدث ويتحدث عن الحروب الأهلية، الحصار والمعارك، والمدافع، والجرحى الذين يموتون في صحون الكنائس، وآخرون يقفون ويطلقون الرصاص في مواجهة جدران المدافن. كل هذا كان باقياً معه إلى الأبد- موجة بعيدة من الانفعال تضرب على شاطئ الذاكرة.
ذلك الغبار، الفتيات، الجولة بسيارة مكشوفة، الشوارع عند الغسق، الجنود المهزومون المسنون الذين يتذكرون مع جده الحروب التي خاضوها، خالاته اللائي يقمن بنسج أكفانهن، جدته وهي تتحدث إلى الأموات، والأموات أنفسهم الذين يتنهدون في غرف النوم الخالية، شجرة الياسمين في الحديقة، القطارات الصفراء المحملة بالموز، تيارات المياه وهي تتدفق عبر المزارع المظللة، دعاء الكروان في الصباح الباكر. كل هذا كان لا بد وأن يختفي، تُطيره الرياح بعيداً مثل الرياح التي طَيّرت «ماكوندو» بعيداً في الصفحات الأخيرة من «مائة عام من العزلة»..
في القارب الذي استقله غابريل بمفرده ولأول مرة وهو في الثالثة عشرة من عمره- بدأ ماركيز نوعاً من المنفى سيكون السمة الغالبة على مجريات حياته.
بعد القارب، جاء القطار الذي كان يرقى الجبل بوهن. وفي نهاية هذه الرحلة الطويلة، وفي أحد أيام كانون الثاني يتذكر ماركيز أكثر أيام حياته حزناً، حيث وجد نفسه في محطة السكك الحديدية في بوغوتا، مرتدياً حلة سوداء من حلل والده بعد أن أعاد ضبط مقاساتها، ومعطفاً، ويعتمر قبعة ويحمل حقيبة.
بدت بوجوتا بالنسبة لماركيز «مدينة بعيدة، كئيبة. حيث دأبت الأمطار على الهطول دون توقف منذ بداية القرن السادس عشر. أول شيء لفت نظري في العاصمة القاتمة، وجود عدد كبير من الرجال، معظمهم في عجلة من أمره. جميعهم يرتدون حللاً سوداء ويعتمرون قبعات كتلك التي أعتمرها. كما لفت نظري عدم وجود أية امرأة. كما لاحظت عربات الترام وهي تحدث شراراً مثل الألعاب النارية أثناء دورانها عند المنحنيات تحت المطر، واختناقات المرور التي لا تنتهي بسبب الجنازات التي لا ينقطع سيرها. كانت هذه أكثر الجنازات حزناً في العالم، حيث تجر الجياد السوداء المكسوة بالقطيفة عربات دفن الموتى الفخمة».