مختارات في التراث لـ هادي العلوي
-1-
تكتظ الساحة الثقافية أو بالأحرى السيا-ثقافية بالكتابة عن الإسلام السياسي، أي: عن الحركات المسماة أصولية أو سلفية أو دينية، وتشتد وتتكاثف الكتابات حولها، إلى حد أن بعض الكتاب ألقى عن نفسه كل عبء غير هذا العبء، وجعل محور نضاله وغاية سعيه أن يتصدى لهذا الإسلام الذي يزيد خطره على غيره، بل هو الخطر الوحيد الأوحد، بعد أن أعاد هذا البعض ترتيب قائمة الأعداء لتستقل بالإسلام، حيث يصبح أعداء الأمس، إن كان هناك أعداء بالأمس، أحباباً… فلم تعد الرأسمالية الاحتكارية وغرستها الرأسمالية الكولونيالية– التابعة– ولا الاستعمار ولا سليلته «إسرائيل» من بين الأعداء، بل هي في نهاية الأمر حليفه في الحرب المصيرية على الإسلام.
كانت ثمة فسحة للمقارنة لو أن كتابنا تخلصوا من هيمنة الثقافة الأحادية، وعرفوا شيئاً من ثقافة الشرق. كان عمر بن عبدالعزيز باستغنائه المطلق عن الولاية والخلافة يُمسلم حكاية الحكيم الصيني ياو. والحكيم ياو من رموز التاويين. أرادوه أن يكون إمبراطوراً فرفض قائلاً أنّه لا يحتاج إلى إمبراطورية. وعندها قال تشوانغ تسه، حكيم التاو الثاني: ياو لا يحتاج إلى الإمبراطورية، لكن من لا يحتاج إلى الإمبراطورية هو بالضبط ذلك الإنسان الذي تحتاجه الإمبراطورية ليحكمها.
-2-
“أهل العلم والعقل عندما تتسع عليهم المعرفة بالحقائق ينتابهم شعور بالإشمئزاز من جهل العامة فيتمايزوا عنها. وكثيراً ما تصبح كلمة عامي صفة مثيرة للإستهجان لما يقترن بها من الجهل. وهم لا يفرقون بين الجهل والأمية، فالعوام أميون، أي: لا يحسنون القراءة والكتابة، لكنهم قد لا يكونون جهلة بالضرورة لأنهم يزاولون مهناً وصناعات تحتاج إلى الفكر والمهارة، ومن يملك الفكر والمهارة لا يسمى جاهلاً، وإنما يسمى أمياً، إذا كان لا يقرأ ولا يكتب. والعوام أيضاً يشتملون على وعي اجتماعي طبقي سياسي، ووعيهم السياسي قديماً محفور باللقاحية الرافضة للدولة، وهم لا يحبون الدولة التي تجد لها أنصاراً وأتباعاً كثيرين بين أهل العلم والعقل. وحديثاً يضاف إلى عناصر وعيهم السياسي الوعي الوطني المناوئ للاستعمار. وهذه مظاهر وعي ومعرفة قد تنعدم نظائرها في أوساط العلم والثقافة. فالعامة ليست مصدر إزعاج للعقل والضمير بل هي في الحقيقة من مصادر الوعي.
-3-
جاء المتصوفة ومن قبلهم أهل التاو بوحدة الوجود وأقاموها على تعدد الواحد، فهي وحدة مفرَّقة وإنما ترجع في وصفها بالوحدة إلى المطلق الذي ترجع إليه الأشياء، والمطلق واحد افتراضي منه تبدأ الأشياء فتكثر وتتنوع في حركة انشقاق يتوسع بها الوجود ويواصل اختراقاته، حتى ينأى بكثرته عن الوحدة ويتفاصل ويتمايز. ومن أراد جمعه تفصد وخرج الدم من فمه ومناخيره وهؤلاء هم أصحاب وحدة الوجود، وهم قديماً مجموعة من المثاليين الذاتيين أنكروا الوجود الفعلي للعالم وأدغموه في المطلق.
-4-
كان المهلب بن أبي صفرة مشتبكاً مع الخوارج على رأس جيشٍ لمصعب بن الزبير، وجاء الخبر بمقتل مصعب، فعلم الخوارج قبل المهلب فتوافقوا يوماً على الخندق، فقال الخوارج: ما تقولون في مصعب؟ فقالو: إمام هدى. قالوا: فما تقولون في عبد الملك؟ قالوا: ضالٍ مُضلٍ. ومر يومان وبلغ مقتل مصعب واستبداد الأمر لعبد الملك جيش المهلب وورد عليه كتاب عبد الملك بتجديد ولايته على الجيش، فلما توافقوا ناداهم الخوارج: ما تقولون في مصعب؟ فأمسكوا عن الجواب. قالوا: فما تقولون عن عبد الملك؟ قالوا: إمام هدى، فقال الخوارج: يا أعداء الله وعبيد الدنيا، بالأمس ضال مضل، واليوم إمام الهدى.
-5-
نمي إلى جعفر بن سليمان حاكم المدينة، أن مالك بن أنس أفتى بأن طلاق المكره لا يجوز، وأنه يعني بذلك أن بيعة الخليفة العباسي غير ملزمة لأحد لأنها أُخذت بالإكراه، فجاء به وأمر الجلاوزة بتعليقه من يديه ورجليه على شكل أفقي، ثم أخذوا يضربونه بالسياط حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمر عظيم. يقول راوي الخبر فما زال مالك يعظم في أعين الناس وكأن تلك السياط كانت حُلِيّاً حُلِّي به.
-6-
بينما محمد بن إبراهيم، المعروف بابن طباطبا الحسيني، يسير في بعض طرق الكوفة متأهباً للانتفاض ضد المأمون، إذ نظر إلى عجوز تتبع أحمال الرطب، فتلتقط ما يسقط جمع منها في كساء عليها رث، فسألها عما تصنع بذلك، فقالت: إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤونتي، ولي بنات لا يعدن على أنفسهن بشيء، فأنا أتتبع هذا من الطريق وأتوقته أنا وولدي. فبكى محمد بكاء شديداً وقال، أنت والله وأشباهك تخرجوني غداً حتى يسفك دمي.
-7-
خطب عبد الملك مروان في مكة، فوعظ الناس وأمرهم بتقوى الله، فنهض عليه رجل من الحضور وقال: مهلاً مهلاً إنكم تأمرون ولا تأتمرون وتنهون ولا تنتهون، افنقتدي بسيرتكم في أنفسكم، أم نطيع أمركم بألسنتكم، فإن قلتم اقتدتوا بسيرتنا فأين وكيف وما الحجة؟ ومن النصير من الله في الاقتداء بسيرة الظلمة التي أكلوا أموال الله دولاً وجعلوا عباد الله خولاً، وإن قلتم أطيعوا أمرنا واقبلوا نصيحتنا، فكيف ينصح غيره من يغش نفسه، أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عدالته؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها، واقبلوا العظة حيث سمعتموها، فعلام قلدنا أزِمَّة أمورنا وحكَّمناكم في دمائنا وأموالنا؟ أما عرفتم علّمتك أنّ من فينا من هو أبصر بفنون العظات، وأعرف بوجوه اللغات منكم، فتحلحلوا عنا لهم وإلّا فأطلقوا عقالها وخلوا سبيلها يتدبر إليها الذين شردتموهم في البلاد، ونقلتموهم في كل واد. وهنا قام إليه أحد الحراس فأخذه، وكان هذا آخر العهد به.