مصير الإنسان والتغيير... دروس من حزب غرامشي
على أساس أن الدروس السياسية التاريخية تنبع من قوانين الصراع والتناقصات الاجتماعية، ولأن مرحلة الإمبريالية تقدم أرضية عامة للقضايا الإنسانية المطروحة، يمكن الارتكاز على التراث السياسي لأحزاب التغيير الجذري الماركسية للخلوص إلى خطوط عامة، قد تكون مؤسسة للممارسة السياسية لأحزاب التغيير الجذري في بلادنا في المرحلة النوعية التي يعيشها العالم. ليس ذلك فقط، بل إنها تشكل أيضاً أدوات مواجهة أيديولوجية ضد التيار الليبرالي العدمي المعمم للانقسامات الوهمية الاجتماعية، ومنها مثلاً: الفرز المطلق بين القوى الاجتماعية المتدينة وغير المتدينة، ما يعني استحالة القول بالوحدة الشعبية على أساس وحدة القضايا الملحة المطروحة، كقضية الوجود واستمراره، أي: السلام من جهة، وقضية التقدم والتغيير الاجتماعي الجذري المرتبط به من جهة أخرى.
في كتاب (النهج الإيطالي نحو الاشتراكية) (مؤسسة الأبحاث العربية_ بيروت_ 1980، ترجمة عفيف الرزّاز) نصوص مجمعة للأمين العام للحزب الشيوعي الإيطالي بالميرو تولياتي، رفيق غرامشي، خلال مرحلة ممتدة من عشرينات القرن الماضي وحتى الستينات منه، ويطال قضايا مختلفة، منها: الوحدة الوطنية، والعلاقات الدولية، وعلاقة الكنيسة والمجتمع، وكذلك علاقة قوى التغير الجذري والقوى السياسية المتدينة (هي هنا (الكاثوليكية) في معالجة تولياتي).
يقدم الكتاب صورة شبه عامة عن التجربة الشيوعية الإيطالية ما قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية، وتجربة المقاومة ضد الفاشية، وكذلك قضية الترابط بين مهام التغيير والتحرير الوطني في إيطاليا.
(مصير الإنسان(
ومن النصوص المختارة محاضرة لتولياتي ألقيت في مدينة بيرغامو الإيطالية(1963)، تحت عنوان (مصير الإنسان) يحاول فيها تولياتي أن يلقي نظرة على العلاقات السياسية والبرنامج السياسي للحزب الشيوعي الإيطالي ارتباطاً بالتحليل العام للمرحلة التاريخية التي كان يمر بها العالم، والصراع الدولي انطلاقاً من المخاطر التي تشكلها الإمبريالية على البشرية ككل، ويعطي فيها تولياتي مثالاً: الحرب النووية وقضية السلام الدولي، الأزمات المالية والخراب الاقتصادي، قضايا الاغتراب والعزلة الإنسانية، التطور التكنولوجي والتعطيل عن العمل، إضافة إلى مأساة العالم الرأسمالي التي تفكك البنية الاجتماعية وتعزل الأفراد وتكبح التطور الإنساني الشخصي الشامل، ويظهر عقم ووهم الطروحات الليبرالية عن الديمقراطية والحرية الفردية الخاضعة لأَسرِ الاستهلاك والعبودية الاقتصادية والسياسية.
(التواصل الطارئ)
والنقطة المركزية في النص، هي: قضية العلاقة بين القوى الكاثوليكية المتدينة وبين الأحزاب الشيوعية الماركسية، ليس في إيطاليا وحدها بل في العالم الغربي عامة، وينطلق تولياتي من القول: أن مجمل اللوحة العالمية والتناقضات المهددة للبشرية ككل تتطلب مواقف واقعية ومسؤولة وهادئة من القوى السياسية كافة، والالتقاء على توافقات عامة وشاملة، تتجاوز (التواصل الطارئ) كما سماه، حول معالجة المسائل المصيرية التي تهدد المجتمع البشري، والتي تفرض هكذا تلاقي. ويؤكد تولياتي: أن الفرز على أساس التدين والـ)لا تدين) هو فرز يعزز الانقسام الاجتماعي، كما يؤكد في ذات الوقت أن الخلافات الأيديولوجية حول القضايا الفلسفية ليست منطلقاً ولا شرطاً مسبقاً للتلاقي على القضايا البرنامجية الاجتماعية السياسية، التي هي أرضية جامعة ضرورية لمختلف القوى الشعبية في المجتمع، وحلها يفرض الحوار الجدي والمسؤول بين القوى السياسية الاجتماعية الشعبية، دون أن يعني هذا الحوار مساومات فكرية من قبل القوى الجذرية كذلك، بل انطلاقاً من الوحدة الديالكتيكية بين مكونات مختلفة، يمكن أن يكون بينها تناقضاتٍ، ولكن في إطار وحدة غير تناحرية انقسامية، قادرة على توحيد المجتمع حول قضية الحفاظ على الحضارة، وخصوصاً أن القوى الدينية الكاثوليكية (المتمثلة بالحزب الديمقراطي المسيحي وقتها بشكل أساس) خاضت تجربة المقاومة ضد الفاشية والنازية إلى جانب الحركة الشيوعية الإيطالية والوصول إلى تحقيق نصر وحالة ديمقراطية اجتماعية جامعة مطلوب تعميقها عبر التغيير الجذري وسياسات اقتصادية شعبية، فالمنطلقات الفكرية المختلفة حسب تولياتي قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى نقاط وصول متشابهة ومتقاربة، ويعيد تولياتي النداء عدة مرات: (فهل من سبيل لإقامة الاتصال، لا الاتصال الطارئ فقط لحل المسائل السياسية الطارئة، بل الاتصال الأعمق الذي يمكن أن يؤدي إلى مساهمة تقريرية في خلق هذه الحركة الواسعة لإنقاذ حضارتنا، ولمنع العالم المتحضر من طريق الدمار الشامل؟ (ص205)) بالرغم وبعد أن (حفرت أخاديد عميقة في وسط الجماهير.... الأخاديد التي لم تردم بعد) (ص208) نتيجة الصراع الأيديولوجي والسياسي بين الجانبين في مرحلة (آخر الحروب الصليبية على الشيوعية) (ص208).
النظام المتعفن
بعد أكثر من نصف قرن على هذا الطرح، وبعد أن اشتدت أزمة النظام الإمبريالي إلى الحد الذي نرى فيه ليس فقط انفجار تناقضاتها، بل تراجع القوى الإمبريالية نفسها في المجالات كافة، نرى أن طرح تولياتي والحزب الشيوعي الإيطالي متقدمٌ ومثالٌ صالح لمقاربة المسائل المباشرة في دولنا العربية، ليس لأن الأزمة العميقة للرأسمالية هي اليوم في مرحلتها النهائية مادياً ومعنوياً فقط، وهو ما صار مهدداً للوجود البشري أكثر وأكثر، وخصوصاً تركة هذا النظام المتعفن على مستوى النتائج الاجتماعية والبيئية، بل أيضا: لأن هناك تشابهات عدة بين إيطاليا التي كانت تعتبر الحلقة الأضعف في الدول الأوروبية من حيث تراجع القوى الصناعية فيها، واتساع النمط الزراعي المتوسط والحرفي الصغير كذلك، وبين دول مثل: سورية، لبنان، الأردن إلى حد ما، ما يعني تشابهاً في بنية الوعي الاجتماعي وخصوصاً الحضور الديني الواسع لدى مختلف الفئات الشعبية.
أزمة مصير الإنسان والتغريب والتدمير الشامل للطبيعة، وتفكك البنى الاجتماعية يفرض إذاً: تلاقياً ودعوةً مسؤولة ليس في داخل الدول المعنية، بل بين الدول على النطاق العالمي كذلك، لحل هذه المسائل الوجودية، هذه الدعوة التي نرى انعكاسها الدولي في المحور الصاعد داعم السلام، والقائم على الحوار والتعاون المشترك. هكذا وضد منطق الانقسامات الوهمية والفكر الليبرالي التفتيتي، يمكن للقوى الاجتماعية التوحد على برامج عمل كبرى في جوهرها: قضايا الإنسانية الشاملة التي تترابط مع مشروع التغيير الجذري المادي والمعنوي.