بحث في الثقافة المحتضرة
محمد المعوش محمد المعوش

بحث في الثقافة المحتضرة

انعكاسات الواقع الموضوعي على مستوى الوعي في مستوياته المختلفة، الفنية والثقافية والأخلاقية والفكرية والعلمية، تفرض أن تشابه المراحل التاريخية اقتصادياً واجتماعياً لا بد وأن ينعكس تشابهاً على مستوى الوعي بالضرورة، وإن أخذنا الإنتاج الفكري الماركسي النظري والسياسي، وانطلاقاً من القول: أن المرحلة الراهنة هي مرحلة أزمة عميقة في الرأسمالية، فإن العودة إلى مراحل تاريخية عاشت فيها الرأسمالية الأزمة بشكل منفجر، يمكن أن يقدم لنا هذا الإنتاج الماركسي دليلاً عاماً للعمل وأدوات للمواجهة الفكرية والسياسية، وكيف إذا كانت الأزمة اليوم هي من الحدة بحيث أنها دليل مباشر قادر على البرهنة على ما كان في مراحل الأزمة سابقاً أقل حدة ربما أو أكثر عمومية!




المنصة النظرية
كون الأزمة المنفجرة الأقرب تاريخياً، كانت خلال بدايات القرن الماضي والتي طبعت السنوات ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، يمكن للمنصة النظرية المنتجة وقتها أن تكون بؤرة التركيز الحالي، كون التراجع اللاحق الذي طبع الفكر الثوري كان قد طمس أغلب هذا الإنتاج أو أهمل. المنصة التي تظهر للبعض (من أهل اليسار نقصد) الذي يزال تائهاً في توصيفه أو في تردد عن إعلانه أن الرأسمالية تواجه أزمتها الوجودية، تظهر لهم بطلان ادعائهم، بأن الكلام عن أن المرحلة الراهنة هي مرحلة نوعية هو كلام خاطئ، وتظهر أن الماركسية يوماً نطقت بهذا الوضوح وبهذه الدقة النظرية.

حتى يرتاح البعض من هستيريا السوفييت
عادة إذا ما واجهنا هذا البعض من اليسار بتراث نظري وكونه يتركز غالبا، في المنتج ضمن التجربة السوفييتية، يعلن وقتها اتهامه بالخشبية أو بالتبعية الإيمانية المطلقة لهذا التاريخ، ولهذا ولأجل هذه الغاية وحدها تكمن أهمية استعادة تاريخ مفكرين أو تجارب ثقافية وسياسية من خارج الحالة السوفييتية، حتى لا يصيب البعض هستيريا السوفييت ربما.

الكتيبة الأممية ضد فاشية فرانكو
في أعوام صعود الفاشية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، تشكلت وقتها مجموعات من المناضلين الأمميين الماركسيين لقتال المد الفاشي، من مختلف الدول، ومن المعارك التي خاضتها هذه الكتائب الثورية الأممية كانت في إسبانيا ضد نظام فرانكو. وفي المجموعة البريطانية الملحقة بهذه الكتائب كان الصحفي والباحث والكاتب الماركسي البريطاني من خلفية عمالية كريستوفر كودويل.

المفكر الشهيد
بعد عمر قصير(29 عاماً،1907-1936) والذي تميز فيه بإنتاج غزير نظري ونقدي ثقافي، والذي كان منتسباً إلى الحزب الشيوعي، استشهد كودويل حينما كان يغطي تراجع مجموعة لرفاقه المحاصرين في إحدى المعارك ضد الزحف الفاشي. كتب كودويل مجموعة الدراسات تحت عنوان «دراسات في ثقافة محتضرة»، في العلم والثقافة والفلسفة والفن والجمال والتاريخ والاقتصاد، وكتابه الأهم «الوهم والواقع».

الثقافة البورجوازية ومرضها الخطير
يظهر تحليل كودويل: أن ارتداد الوعي السائد البورجوازي عن الواقع نتيجة التناقضات الموضوعية لا يزيده إلا تناقضاً وتأزماً، وخصوصاً أنه كوعي لا يعلن أنه في أزمة، أو أنه لا يدرك وينفي هذه الأزمة، وكل تقدم تحاول أن تخطوه الثقافة البورجوازية لا يعجل إلّا في اهترائها. و»غير لأنها الآن وبعد إنجاز أقصى ما تقدر عليه، غدت قوة مرضية، قوة هي المرض بعينه، فالمحركات المهترئة محكومة بأن تصبح عقبات وفرامل.»
وهذا المرض البنيوي، يقول كولدويل، محكوم بجوهر أزمة الحرية البورجوازية التي تعلن أن الإنسان الحرّ هو شعار يعزل الإنسان عن العلاقات الموضوعية فبـ «تحرير» الإنسان من هذه العلاقات الضرورية، تجعل كل مفاهيم الفكر البورجوازي مضادة للواقع وواهمة كونها تلغي العلاقات التي هي أساس الإنسان وقيمه ومعانيه. وقال كودويل وقتها: إن الثقافة البورجوازية التي حققت كل المنجزات دخلت في حالة يأس وعجز واهتراء، وأساسه أنّ كل تقدم يتحقق جلب المزيد من الأمراض الاجتماعية والخلل الاقتصادي والبيئي والفوضى الشاملة.
إذا كان هذا التحليل من ثلاثينات القرن الماضي فهو اليوم وبعد أن تعمقت التناقضات فالأكيد أن الثقافة البورجوازية هي أبعد من اليأس، الذي نبع وقتها عن التناقضات، بل هي اليوم تحمل ملامح العدمية والغيبية.
هذا التحليل وعلى أساس الأزمة المنفجرة يستعاد اليوم ويستكمل بأن الثقافة المحتضرة منذ القرن الماضي لا زالت في احتضار، ولكنها أقرب إلى الجثّة المتعفنة التي لم تعد قادرة على التنفس. ولكن يبدو أنّ هذا التحليل يشكل حساسية للبعض الذي لا يرى أن الرأسمالية تعيش آخر صراعاتها، وما استعادة منجزات هكذا منصات إلّا تأكيدٌ على أنّ الماركسيين سابقاً، حتى لو لم يكونوا سوفييت، كانوا بهذا الوضوح وهذا الموقف الذي يعتبره البعض اليوم مبالغاً في «تفاؤله».