أفسحوا الطريق
في إحدى سنوات عمره الأخيرة، نشرت الجرائد الصباحية خبر مغادرته مدينة موسكو في الساعة الثانية عشرة ظهراً بعد زيارة استغرقت عدة أيام متوجهاً بالقطار إلى بيته في قرية ياسنايا- بولانا في قضاء مدينة تولا الروسية العريقة. اجتمع آلاف الناس من أهل موسكو في ساحة محطة قطارات كورسك لوداعه، وعندما أطلَّ «تولستوي» قامت الجماهير، وكأنها جسد واحد، بخلع القبعات عن رؤوسهم تقديراً واحتراماً لهذه القامة العالية الوافدة المنهمرة.
تماوجت الجماهير كالبحر الهائج وامتلأ الجو بالهتافات، كان الحشد من مختلف فئات الشعب، وقد تزاحم الجميع في محاولة الوصول إلى مكان وقوفه والاقتراب أكثر من قامته الباسقة. وفي هذا الحشد الهائل دوّى صوت شاب آمراً: إلى الصفوف. وانفتح الدرب أمامه بقوة ساحر، وامتد ممرٌّ ضيقٌ طويلٌ من كلا الطرفين بالناس الذين تشابكت أيديهم. وعندما صعد إلى درجات عربة القطار، صمتت الأصوات كافة، وقف متأملاً الجموع ثمَّ بكلمات لطيفة معبرة شكر مودعيه, وتحرك القطار بهدوء والهتافات العالية ترافقه. ما الذي فعله هذا الشيخ الطاعن في السن بهذه الحشود التي تموج ويلطم بعضها بعضاً؟ وأية صلة تلك التي امتدت بينه وبين الخلق؟
المعروف عنه أنه أديب كبير خاض الكثير من أغراض الأدب، كتب روايات خالدة ومسرحيات وقصصاً وحكايات شعبية جليلة القدر، وألف كتب التعليم الموجهة للأطفال، ونشر عشرات المقالات والأبحاث في الصحف الروسية والأجنبية دفاعاً عن الفلاحين مبرزاً فساد النظام الإقطاعي. ولقب نفسه في سنوات الثورة الروسية الأولى (1905- 1907) بمحامي مئة مليون من الفلاحين. وفي ضيعته الموروثة ناضل للتخفيف من معاناة الفلاحين وأنشأ مدارس لأولادهم، ونظم حملات إغاثة للجياع في بعض المجاعات التي عصفت بروسيا في أعوام (1890- 1891)، وتدخل مراراً لمساعدة ضحايا القمع القيصري مستفيداً من مكانته كوريث أرستقراطي وأديب كبير. وعمل بنفسه في زراعة أراضيه. وحين تجاوز الستين من عمره امتنع عن أكل اللحم ليصبح نباتياً صرفاً, لأنه لا يريد أن يأكل أحداً. وعاش حتى بلغ الثانية والثمانين. وتوقف قلبه عن العمل في الساعة السادسة وخمس دقائق من صباح السابع من تشرين الأول سنة 1910 وشاع خبر وفاته في أنحاء العالم.
في أواسط شهر كانون الثاني عام 1911 كتبت شقيقته ماريا نيكولايفنا عن لقائها الأخير بأخيها إلى مترجم أعماله إلى اللغة الفرنسية شارل سلامون تقول: كان شقيقي يريد في زيارتي الأخيرة أن يركن، أن يعيش في وضع روحي هادئ فقط، كم فرح المسكين برؤيتي، وكم تمنى أن يعيش في أي بيت فلاحي بسيط!
لكنه مات في تلك المحطة النائية استابوفو على خط حديد موسكو- كورسك، وتوقفت عقارب ساعات المحطة عند الزمن الذي توقف فيه قلبه عن الوجيب. وبقيت سيرة حياته وأفكاره ومؤلفاته حية ترشد البشر إلى طريق الخلاص. وهكذا تمايز في فكره وحياته من خلال بساطة العيش في الطعام والملبس والمسكن، وفي الإشاحة عن هموم المجد الشخصي والجاه الاجتماعي. وبذلك نجح في إنشاء سلطته الخاصة التي وظفها أدباً وفكراً فاعلاً في مشروعه لنصرة جماهير الفلاحين الفقراء. وفي الأشهر الأولى بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 عهد لينين إلى رفاقه بنشر مؤلفاته على نطاق واسع، ومن ضمنها المؤلفات التي منعتها الرقابة القيصرية. وبعد سنوات من العمل الدؤوب ظهرت المجموعة الكاملة لمؤلفاته في تسعين مجلداً من القطع الكبير.