«الوشّيش!»

«الوشّيش!»

فور دخولي حرم كراج البولمان، وإذ بأحد الأشخاص الذين يعملون لصالح إحدى الشركات كسمسار، يهرْول صوبي بِخِفَّة منادياً بصوتٍ جَهْوري: «عالشّام، عالشّام أستاذ؟ الباص سينطلق بعد عشر دقائق. تفضّل، ها هو مكتب شركتنا.»

 

نظرتُ إلى واجهة مكتب الشركة التي أشار إليها، لفت نظري ما كُتِبَ عليها بخطﱟ عريض: «اللاذقية- دمشق، رحلة مباشرة دون توقّف».
فجأةً خطر على بالي ممازحته دون أن يشعر بذلك، وأنا المهووس بتدبير المقالب وإعدادها وتنفيذها، قلت له:
- أعتذر منك يا صاحبي، لا يمكنني السفر على متن بولماناتكم، لأنكم لا تقفون في الاستراحات.. سأسافر من خلال الشركة التي تجاوركم.
وهممْتُ بالانصراف.
فما كان منه إلا وأمسك بساعدي مستوقفاً:
- على مهلك أستاذ، ومن قال لك أننا لا نقف في الاستراحة؟!
قلت له وأمارات الجدّية تبدو جليّةً على وجهي:
- انظرْ إلى واجهة مكتبكم، لقد كتبتم بصريح العبارة بأنكم لا تقفون في الاستراحة. وأنا أصدّق ما كتبتموه!
ألقى نظرة خاطفة على واجهة المكتب، وسرعان ما اقترب صوبي أكثر ووضع يده على كتفي مستجدياً بصوتٍ خفيض مع ابتسامة مصطنعة:
- أستاذ، أرجوك لا تُعِرْ التفاتاً لهذه العبارة. نحن نكتبها لترغيب الزبائن وإقناعهم بالسفر عبر شركتنا. هكذا فقط؛ الله وكيلك لم يسبق أن امتنعنا عن التوقف ولا مرّة في الاستراحة..
ولمّا كنت بحاجة ماسّة للبسمة في ظلّ كل ما يحيط بنا من ويلات. فقد تماديتُ بعتاب وغطرسة لاستدراجه إلى ما أرمي إليه:
- ثم إنكم أقلعتم حسب معلوماتي عن تقديم الضيافة للمسافرين (صحيفة، قطعة سكاكر، منديل معطّر.. إلخ) حتى إنكم تبخلون عليهم بتشغيل الفيديو لتسليتهم أثناء الرحلة!
أجابني محتجّاً باستنكارٍ واعتزازٍ معاً:
- معلوماتك غير دقيقة أستاذ، ما زلنا نقدّم الضيافة ونشغّل أفلام الفيديو.. إلا أننا امتنعنا عن تقديم الصحف للركاب كون الأغلبية يتابعون الأخبار عبر موبايلاتهم.
قلت له وأنا ممعنٌ في محاصرته بتهكّم، وأنا أحاول الابتعاد عنه:
- يا أخي أنتم تغرون الزبائن وتصطادونهم بمنافسة متخلّفة مع غيركم، لنكن صريحين، هذا مظهر غير حضاري وتسبّبون الإزعاج للناس. إنكم تخدعونهم بمزايا خلّبية لقاء عمولة من صاحب الشركة!
أجاب بصوتٍ مفعمٍ بالشجن:
- عمولة؟ أية عمولة! وهل ما نتقاضاه تُعِدّه دخلاً؟ من الصباح الباكر وحتى ساعة متأخرة من الليل، ونحن ننبح بأعلى أصواتنا كالكلاب المسعورة لجذب الزبائن. نتحمّل مرارة الذلّ كالشحّاذين في الحرّ والقرّ، من أجل أن نتزقّم لقمتنا المغمّسة بالقهر. وتقول لي عمولة؟! «ولك الله يلعن الزمن الذي ساقنا إلى هذه المهنة الحقيرة».
جمدتُ في مكاني وأنا أستمع إليه بحزن متوجّعاً من وخز كلماته. شعرتُ بالندم والحرج لإصراري على استفزازه. ولأول مرة أنتبه إلى هيئته؛ إنه رجل ثلاثينيّ أسمر اللون نحيل الجسم، قسمات وجهه حادّة، يرتدي أفرولاً بالياً تبدو عليه أمارات الشقاء. وبدأتُ كالمحموم أبحثُ عن خاتمةٍ سارّة لهذا الحوار الماكر، الذي أفصح عن جوّانية هذا الكائن البائس. وسرعان ما اهتديتُ إليها وأنا أتوسّل في سرّي بضراعة أن أنجح في رسم ابتسامة على وجهه، فاقتربتُ منه مجدداً وأنا أتقنّع بالبراءة والمسكنة قائلاً:
- يا أخي، بصراحة أخشى أن تخسروني فيما لو جرّبتُ شركتكم ولم تتوقّفوا في الاستراحة، فأنا على الأقلّ أسافر مرّة بالسنة إلى دمشق. ولا أتمنى أن تخسروا زبوناً دسماً مثلي..
حملق بي بنزق ورازني وهو ينظر إليّ من فوق لتحت باستهجان، وزرّ إحدى عينيه الحمراوين ورفع حاجب الأخرى ساخطاً:
- قلتَ لي تسافر مرة في السنة إلى الشام، ولا تريد أن نخسرك؟ (وأضاف مستهزئاً بنبرة عدوانية) هه، أي بالناقص..
وكاد أن يقذفني بشتيمة ثقيلة ويتطور الموقف إلى ما لا يحمد عقباه، فآثرتُ السلامة. وأسرعتُ بمداعبة خدّه بأناملي بعد أن فقعتُ ضحكةً مجلجلةً أثارت انتباه كل من حولي:
- ولووو أنتم الوشّيشة.. لا تتحمّلون المُزاح أبداً.. خلص بقى، افردْها واحجز لي تذكرة.. يالله لشوف.. اففف!