لا ملجأ للمأزومين إلا الغيب
ليس للشعور بالحقد الطبقي شكلاً واحداً تجاه كل القوى الاستغلالية المعادية وادواتها، فبضعها يصيب الفرد بحالة من الغثيان، أو كما سمتهم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي (عام 1936 في التقرير الذي صدر عن لجنة منثبقة عنها كانت مهمتها كتابة تاريخ الحزب الشيوعي السوفياتي_ البلاشفة) بالـ «حشرات السياسية» في معرض توصيفها للانتهازيين السياسيين المنزلقين إلى مواقع الكذب والنفاق والارتزاق السياسي الرخيص والعداء للشعب، من فوضويين وتروتسكيين واشتراكيين ثوريين بوخاريين وقتها، الذين أصبحوا مخربين وقتلة ومعادين للمجتمع ككل في حضن الاستعمار.
هذا الشعور يتعلق بالفئة التي تتجَلبَبْ لباس الوداعة، وهي في صلب الدفاع عن القائم في مظهر «مُخَفَّف كأداة ضرورية لتشويه طريق الصراع، تُستَخدَم عندما لا تعود تنفع معها المواجهة المباشرة مع قوى التغيير والواقع الجديد، وهذا ما نراه واسعاً في مرحلة الاستغلال «الناعم «غير المباشر (في العقود الماضية بشكل مضخّم) الثقافي، العلمي، الإعلامي، الدعائي الفني.
التفكيك والعدمية
من الفلسفة إلى السياسة
من هؤلاء هم «دعاة الموضوعية»، أو الوجه الآخر لهم، أي: أصحاب القول بغياب أي تصوّر موضوعي بل كل ما هنالك هو آراء ذاتية، كلٌ له ما يدعمه، والمجموع (الاعتباطي) لهذا الكل هو «الحقيقة»، فهذا التصور هو الانعكاس غير المباشر لمذهب «الجمع بين كل الآراء»، او التيار «المهادن «الحيادي» الذي ينقلب على كل جديد.
في التنظيرات الكثيرة اليوم على الشاشات والصحف وغيرها، ونتيجة للوضع المأزوم الذي وصله فكر التدمير والهدم والحرب والتشويه لطبيعة المرحلة العالمية والجديد فيها، انتقل الفكر الرجعي السياسي إلى حالة «المهادنة» مع الواقع الجديد، وهو يعكس الطبيعة الفكرية لمرحلة كاملة هي «ما بعد الحداثة»، مرحلة الترويج لكل الأفكار الرجعية عن المجتمع والتاريخ والإنسان والفكر، من تفكيك وعدمية وظلامية ومثالية، في تراجعٍ عن كل
منجزات الفكر العلمي والاجتماعي السياسي تاريخياً، والتي كانت انعكاساً لأزمة الفكر الرأسمالي ما بعد التقدم الثوري في القرن الماضي، فكانت فلسفة «العدم» هي التي طغت للقول: إن العالم غير مفهوم ولا سبيل إلى معرفته، وخصوصاً أن المذاهب الكبرى تم اختبار فشلها (المقصود الاشتراكية)، فكانت المرحلة الرجعية الظلامية على مستوى الفلسفة السائدة. ولكن هذا النَّفس ينتقل اليوم من الفلسفة إلى السياسة بشكل أوضح مع اشتداد أزمة الفكر السائد.
ويدعمهم في مسعاهم العلم السائد، والذي يردد سردية عدم القدرة على الموضوعية، بل ما يسود العالم هو «ذاتية» عمياء.
ولكن الرد على هؤلاء تم تاريخياً، إما علمياَ وإما سياسياَ، من خلال القدرة ليس على فهم الإنسان ووعيه ومحركاته فقط، بل أيضاً في نقل هذه الذاتية إلى العمل الموضوعي والفعل في الواقع وفي الذات في آن. ومع أن هذا الجانب بحاجة لتوسع في مكان آخر، ولكن الوعي في تميّزه أن يكون ذاتياً أو موضوعياً، هو في وعيه لقوانينه الداخلية نفسه، وتملك الأصل الاجتماعي لهذه القوانين (الداخلية)، فعندها يصير الفهم (الذاتي) موضوعياً، عندما يتم وعي الذات، التي هي موضوع في النهاية، من خلال الفكر المادي التاريخي، فالفكر والإنسان إن كان ذاتياً بالمطلق لم يقدر على الحياة أساساً منذ ولادة البشرية حتى اليوم.
العدمية في السياسة
من الفلسفة إلى العلم إلى السياسة، الفكر السائد يعلن عدميّته ويعكس فيها أزمته، والمعنى العملي للعدمية، هو: الانسحاب من الواقع فعلاً عقلياً وسياسياً، بالتالي فإن الحامل المادي لهذا الفكر يعيش حالة عجز واستقالة أمام الواقع.
يمكن أن نتلمس بروز هذا التيار بشكل واضح، عندما بدأ المرتزقة والمأزومون سياسياً والذين ارتموا ضمنياً في موقع التدمير، يلاحظون أن كل سرديتهم السابقة تنهار أمامهم فيحاول بعضهم أن يتراجع عن سرديته «الواثقة» السابقة، لكي يحافظ على موقعه ولا يصير خارج الحدث.
هذا التحول واضح بشدة في الصراع الفكري والسياسي عن الأزمة في سورياً كتكثيف التناقض العالمي، وبالتالي تكثيف لفكر هذا التناقض وجديده. كان القول السابق: أن ما يجري هو حرب استعمارية بين مستعمرين (سورية_ الصين_ الولايات المتحدة الأمريكية خاصة)، في حين أنها كانت سابقاً حسب سرديتهم السابقة: حرباً ضد النظام، وحالهم كانت «اللّهم والي من عاداه وعادي من والاه». أما بعد ظهور التوازن الدولي ضد الحرب التدميرية والتي تفتح الأفق من أجل العملية السياسية التي يجب أن تُدعم، وذلك انطلاقاً من الاعتراف بوجود قوى وطنية سورية ودوليّة تملك هذا التوجه، كان التحول نحو سردية التقسيم والتقاسم والصفقات التي من تحت الطاولة.
وبعد تعثر هذه السردية الأخيرة، عندما انتكست أهم دعائمها، أي قوة الأمريكي دولياً، والأهم هو شفافية القوى التي ترعى العملية السلمية كروسيا والصين، انتقل الفكر التنظيري السائد إلى موقع التجهيل ونقل المعركة إلى الغيب، فالبعض أصبح يشدد على صفقات غير مفهومة وغير معلومة، كون الواقع يعاديهم في الأدلة التي ينشدونها، وصاروا يتحدثون عن «أحجية في سورية».
ومتابعة نصوصهم تظهر التفكك وعدم الترابط في مكونات الخطاب الجديد عاكسة قلقاً داخلياً فيه، فالتسوية التي تكلموا عنها تتطلب قوة الأمريكي (ومن بعده الصهيوني)، ولكن تراجع الولايات المتحدة يخرجها شيئاً فشيئاً من المعادلة الدولية، فصار الخط الفكري المأزوم يريد القول لنا، إن ما يجري غامض، وصفقة ما ترتب، واتفاق تحت الطاولة يجري، ولا شيء غير ذلك. الأهم له ألاّ يعترف بالتغيير العالمي، ويلغي أن في سورية خطاً وطنياً يلعب دور الحامل للتغيير.
ولكن من خوفهم على زوالهم يعلنون: أن الحقيقة الموضوعية غير معلومة، وكله في الغيب يكمُن.