العتبة التاريخية والمشروع الثقافي البديل 1/ 2
ما الذي يعنيه على المستوى الثقافي، أن النموذج الرأسمالي في تناقضاته الحادة عمقاً واتساعاً، مطروح تجاوزه على جدول أعمال البشرية؟ أي ما هو النقيض الممكن بمواجهة نموذج الليبرالية ثقافياً، والتي تشكل بنية فكرية تحكم النظرة إلى المجتمع والذات، محددة الأهداف والدوافع والمعاني، المحمولة من قبل النشاط الإنساني ككل؟ بشكل أكثر مباشرة، كيف يكون المشروع الثقافي لحركة التغيير الجذري العميق محمولاً على تصور علمي فردي_ اجتماعي، يُغني التصورات العامة عن الثقافة الوطنية والإنتاجية االتقدمية، بقضايا عملانيّة ملموسة، قابلة للترجمة من خلال الخطاب والبرنامج العلمي للتغيير؟ ليست الأسئلة بجديدة تاريخياً، ولكن الجديد هو التاريخي الاجتماعي نفسه الذي يجعل من الأسئلة تحمل مضامين متبلورة على ضوء التناقض المبتلور نفسه للرأسمالية، منذ أن طرحت هذه الأسئلة في شكلها العملي في سياق التجارب الاشتراكية في القرن الماضي.
إن نقد النموذج الليبرالي وأيديولوجيا الاستهلاك عامة، والفردانية الذاتية والوهم بالتحقق والسعادة، في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية ومفرزاتها الاجتماعية ككل، وتفكيك زيف مقولات الليبرالية الأساسية، قائم بأوسع أشكاله في الفن العلوم والعمل والصحة الجسدية_ النفسية (العقلية) والعلاقات الاجتماعية... ولكن تبقى القضية هي: تحويل مضامين النقد إلى خطوات تأسيس مشروع ثقافي، يسد فراغ انهيار الوهم الليبرالي، ويشكل حاجة اجتماعية، كأدوات في أيدي وعقول الذين يعانون من انهيار تصوراتهم وآلامهم المعنوية، أدوات تكون مادة صراعية في أيديهم لنقل المعاناة إلى ميدان العمل وانخراطهم المنتج في عملية التغيير المادي التي وحدها هي حل المعنوية.
الثقافة بين الخاص والعام
هكذا تصور ثقافي محدد في مفاهيمه، التي تجد في التناقضات اليومية تأريضها المباشر لا يشكل حالة خاصة بمجتمع ما، ولكنه على أساس حدة التناقض في الإمبريالية وبنية الرأسمالية ككل عالمياً، يشكل حالةً ضروريةً عالميةً، وإن كانت تتمايز ما بين الدول والمجتمعات، ولكن وحدة الظروف الاجتماعية والاقتصادية على المستوى المادي كعلاقات سوق، وبغض النظر عن السياق السياسي لآفاق تطور كل دولة، إن كانت صاعدة في مواجهة الإمبريالية، أم كانت في موقع التابع أو المأزوم وطنياً، أو كان في المقابل في موقع الإمبريالية، فعلاقات السوق الرأسمالي إلى حدٍ كبير هي المعبّر العام عن حالة التناقضات المعاشة، وتشكل الحامل المادي(المستوى التحتي من البنية الاجتماعية) لثقافة اللبيرالية الفردانية (على المستوى الفوقي من البنية).
ماركس أم هيغل؟
اعتبر هيغل كفيسلوف مثالي: أن حركة التاريخ هي حركة الفكرة ديالكتيكياً مدفوعة بالذات التي تتحقق في التاريخ، في سعي الذات إلى الاعتراف بها، وهكذا تعي الذات نفسها تاريخياً بشكل تطوري. ولكن ماركس على النقيض: اعتبر أن حركة الفكر هي انعكاس مادي لتطور اجتماعي كصراع طبقي. ولكن هذا لا يلغي المضمون العميق لإنتاج هيغل حول الموقف من الذات. لذلك قال ماركس: إن الشيوعية كحالة اجتماعية تعيد الإنسان إلى ذاته، نتيجة الانفصام الحاصل في المجتمع الطبقي عامة.
إذاً، يمكن لعودة ماركسية إلى هيغل، أن ينبني جوهر المشروع الثقافي، ويمكن أن نتلمس التمايز بين النيقضين الفكريين المتصارعين اليوم، من جهة: ليبرالية تقوم على أن الذات يمكن لها التحقق بمعزل عن الواقع الاجتماعي، وهذا كله يشكل أصل المدارس الذاتية في علم النفس والصحة، ومذاهب الرياضات الذهنية الرائجة حول الطاقة الإيجابية التي يجب أن يخرجها الإنسان من ذاته. وبين الفكرة الماركسية حول الجمع بين الفردي والاجتماعي، وأن تطور الفرد من تطور الكل، وفي هكذا جمع يعود الإنسان إلى ذاته.
التناقض المادي والمعنوي: الجديد التاريخي
إن انفصام الإنسان داخلياً ما بين واقعين، هو ثابت موضوعي في المجتمع المنقسم طبقياً، فمن جهة، إن الفكر المسيطر والسائد لا يكون فقط في أذهان الطبقة المسيطرة، أي كأيديولوجيا عن العالم والذات، بل يتحكم في عقول القوى الاجتماعية عامة. ومن جهة أخرى، هذا الفكر المسيطر الرجعي في التشكيلات الطبقية غير الاشتراكية (إقطاع، رأسمالية) هو متناقض مع حاجات الإنسان الفرد، المادية والمعنوية، وبالتالي فإن المفكر الفرد يحمل أدوات تفكير تتعارض مع المضمون الموضوعي لحاجاته كذات تسعى للاعتراف (حسب هيغل) ولها وجودها المادي. هذا التناقض مبني على موقع الذات في حاملها المادي (الفرد) ضمن الموقع الطبقي المقهور والمستغًل لهذا الفرد. فالعلاقات الاستغلالية تتعارض مع أن يكون للذات اعتراف اجتماعي بها.
هذا الشكل من عدم الاعتراف يتباين تاريخياً في سياق الصراع السياسي الطبقي ضد الرأسمالية، فالمراحل الأولى كانت قمعاً مباشراً للفرد وهدماً ماديا له، وبالتالي كانت الذات، كانعكاس في الوعي، لوجود الإنسان المادي مهمشة مادياً في تهديد وجودها المباشر أي، حاملها المادي. فكان الفكر الفردي، سهل عليه أن يربط أسباب معاناته بهذا الشكل المباشر من المعاناة، فمن يعاني هو الإنسان كذات فاعلة لا كجسد مادي بحت فقط.
ولكن مع تطور الصراع الطبقي، وتقدم الطبقة العاملة في مسرح التاريخ، وولادة التجارب الاشتراكية، تنازلت الإمبريالية بشكل خفف نسبياً من أشكال الاستغلال في المجتمعات التي تحققت فيها مكاسب اجتماعية هامة، وبالتالي انتقل شكل المعاناة إلى تشارك مادي_ معنوي، حيث انفتح الأفق مادياً لكي تتساءل الذات عن الاعتراف المعنوي بها بعد أن زالت القيود المادية والهدم الجسدي.
هذا التحول حصل في المجتمعات الاشتراكية بعد انتصار الثورات فيها، وارتفاع المستوى المعيشي للشعب، وحصل كذلك في المجتمعات الرأسمالية من خلال ما يسمى بالرشوة التاريخية التي قدمت للطبقة العامة من مخافة الثورة. ولكن حصل ثقافياً في ظهور الليبرالية في الغرب، كتعبير ثقافي عن مشروع الذات المعنوي للاعتراف بها، أما في التجارب الاشتراكية فكان دور الفرد في تطور المجتمع والوحدة بين الفردي والاجتماعي، نقيضاً لليبرالية، حيث أن الإنسان كسب الاعتراف بشكل موضوعي مبدئياً (حتى ما لبثت أن بدأت المعاناة المعنوية في التجارب الاشتراكية لبروز هذا التناقض بين الدور الاجتماعي، وبين الحاجات الجديدة المعنوية).
هذا المضمون التاريخي يشكل أرضية ضرورية لكي يجد البحث حول المشروع الثقافي النقيض، مكانه التاريخي في تطور المجتمع واستناداته العملية والفلسفية.