حلّاق القَبْوُ
من المعروف أن السجون السورية يتمتَّع فيها السجين بالعديد من «المزايا» والحقوق قياساً بأماكن التوقيف الأخرى، بالرغم من مئات الملاحظات الشنيعة عليها؛ فالسجين له فسحة يوميّة للتنفّس، ويُسمح لذويه بزيارته شهرياً وحتى أسبوعياً. بالإضافة إلى إمكانية اقتنائه الراديو، وربما الخليوي، وقراءة الجرائد، ومشاهدة التلفاز. ناهيك عن تواصله مع المهاجع الأخرى، والسماح له بشراء ما يحتاجه من «الندوة» وخياراته بطهي ما يشتهي من أصناف الطعام. وليس آخرها التنعّم بالاستحمام وقص الشعر والحلاقة..
إلا أن المعتقل السياسي في أيّ فرع أمني، محروم من كلّ ما ذُكِرَ! فالفرع مهيّأ لاستقبال الموقوف لأسباب غير سياسية لمدة قصيرة؛ إذ ما إن ينتهي التحقيق معه حتى يُحال إلى القضاء أو إلى بيته. أما في حالة الاعتقال السياسي، فقد يبقى موقوفاً زمناً طويلاً، لإرهابه وإرهاب كلّ من يمتُّ له بصلة، بغية إسكات الصوت الآخر وإقصائه، تمهيداً لاجتثاث أية معارضة في المجتمع.
فخلال اعتقالنا السياسي في أحد الفروع الأمنية عام 1989 وبسبب هيمنة حالة الطوارئ والأحكام العرفية على حياة البلاد آنذاك. والتي تخوّل الحاكم بموجبها اعتقال أيّ شخص دون توجيه تهمة له، ولأجَلٍ لا يعلمه إلّا الله، ودون أن يُقَدَّم لأيَّة محاكمة لا فعلية ولا صورية.. فقد بقينا زمناً طويلاً في ذلك الفرع دون أن نقصَّ شعورنا، وأصبحت أشكالنا تدعو للاشمئزاز..
ولمّا كنت قد تدرّبتُ على مهنة الحلاقة خلال فترة الصبا قبل انخراطي في عالم الأحزاب والسياسة، وأمتلك بعض المهارات في هذه المهنة، فقد أعلمتُ السجّان بخبرتي في هذا المجال، وطلبتُ منه أن يخبر إدارة الفرع بذلك، وما عليهم سوى تأمين مقصّ ومشط لأقوم بمهمّتي.
وافقت إدارة الفرع، وشرعتُ بقصّ شعور رفاقي. حتى أنني قصصتُ شعري بمساعدة أحد الرفاق. وسرعان ما تغيّرت هيئاتهم كلياً بعد القصّ، وبانت على أغلبهم مظاهر الارتياح والسعادة، فقد أعدتُ لهم بعضاً من آدميّتهم المفقودة في هذا القبو الرهيب.
وعندما رأى السجّانون والمحقّقون نتائج ما قمتُ به، استحسنوا عملي وتشجّعوا على تكليفي بقصّ شعورهم. ربما لتوفير الأجرة التي يتقاضاها الحلاقون من جرّاء تعاملهم مع تلك الرؤوس. فهم بنهاية المطاف فقراء مثلنا، وتسعدهم أيّة حالة توفير يتمكّنون منها.
وما أثار استغرابي أن بعض المحققين والسجّانين ممّن لم تتلطّخ أيديهم بحمل السوط لـ«تأديبي»، ولم أتلقَّ منهم صفعةً واحدة خلال فترة اعتقالي، بسبب تقاسم الأدوار والصلاحيات مع زملائهم. لم يتجرّؤوا على تسليمي رؤوسهم إلاّ بوجود أكثر من شخص إلى جانب من يرغب منهم بقصّ شعره. وذلك حرصاً منهم على سلامتهم؛ فبرأيهم قد أتذكّر أساليب التعذيب الفظيعة التي مارسها زملاؤهم بحقّي، وقد تغلي في عروقي مشاعر الثأر والانتقام، فأستخدم الأدوات الحادّة التي بحوزتي بأجسادهم، فيذهبون بجريرة زملائهم الجلاّدين إلى ما لا تحمد عقباهم. والحقيقة أنني كنت أشعر بنشوة القويّ الجبّار المُخيف لهم، عندما أراقب التدابير الاحترازية التي يتخذونها، والهمسات التي يتداولونها لحظة التحضيرات لقصّ شعر أيّ منهم.
أذكر خلال الدقائق التي كنت أقصُّ شعر أحدهم، أنه كان يتحوّل إلى شخص آخر تماماً. يتحدّث بعذوبة وبصوتٍ منخفض ومقتضب، وكأنه عند حلاّقه الخاص. ويتوخّى استخدام عبارات فيها من الرقّة واللطف ما لم أعهده بشخصياتهم في باقي الأوقات. فأحسُّ اتجاههم بمشاعر الألفة والرضى، وأتمنّى لو يسمحوا لي بمعانقتهم وتقبيلهم، فنحن جميعاً من بلدٍ واحد، لدينا مختلف الصفات الإيجابية والسلبية منها. قد تطغى هذه على تلك وأحياناً العكس. وكل ذلك مرهون بمجموعة من العوامل والظروف الاقتصادية والسياسية والنفسية والتربوية وغير ذلك. لأن أيّ شخص في العالم مهما كان شرّيراً، لا يضمّ جانباً سيئاً فحسب، بل جانباً خيّراً أيضاً. وكم كنت أتلهَّف للخاتمة عندما أنزع عن أحدهم المنشفة، وأقول له: «نعيماً» وأتلقّى الردّ الذي كنت متعطّشاً لسماعه: «الله ينعم عليك ويرحم والدينا ووالديك.. وألله يسلّم إيديك». عندها الدنيا كلها لا تتّسع لفرحتي؛ فمن جهة أتذكّر باستمتاع أيّام الطفولة والصبا في تلك الغابة الصنوبرية الملاصقة لحيّنا الشعبي، التي كنت أقضي فيها جلَّ أوقاتي. وكيف كنت أقصُّ فيها لرفاقي شعورهم متعلّماً بهم، وأتلقّى منهم عبارات الشكر والامتنان في أعقاب كل عملية قصّ.
ومن جهة أخرى، تزداد ثقتي بكفاءتي وأشعر بقيمتي من أنه يمكنني تقديم المساعدة ليس لرفاقي وحسب، بل ولخصومي أيضاً. وهذا ما يجعلني في قمّة السعادة. ويعطيني شحنة عاطفية إنسانية مؤثرة، أنا وغيري هنا بأمسّ الحاجة إليها، لأتوازن في هذه البيئة المُذِلّة التي ترتع فيها كل أنواع الأحزان والمآسي والأهوال..