مروّض الأسود 2
«... كانت فترة الحرب الباردة فترة اضطراب شخصي في حياتي... فالأمريكيون مضطربون وغير سعيدين أكثر من أي وقت مضى... اتجاه العالم نحو الجماعية، هو نوع من الإبادة...
... في ذروة الحرب الباردة، شعرت أنه إذا اتجهت الولايات المتحدة نحو الشيوعية فهو نتيجة عدم المساواة من قبل نظامنا، وليس نتيجة للتدخل الروسي...»_ من كتاب التأقلم مع الحياة_ لجورج فايلانت
الاقتسبات، هي جزء من مقابلات ضمن بحث أجري على مدى خمسة وثلاثين عام، على عيّنة منتقاة بانحيازية عالية، من طلاب متفوقين لمعرفة ما مدى تطور آلياتهم الدفاعية الناضجة، تماشياً مع مستواهم العلمي والمعرفي المتقدم.
في المقال السابق، ذكرنا أن العديد من علماء النفس، يشددون على أن بعض الآليات الدفاعية تستعمل من قبل الأفراد بحسب عمرهم، وتقدمهم الإدراكي. فعندما يتقدم الإنسان بالعمر، يتملك وعيه القدرة على معرفة أكثر بالمحيط الذي يعيش، وبالعلاقات الاجتماعية المنسوجة في المجتمع، مما يجعله قادراً على الفصل بين ما هو ممكن، وغير ممكن، في أية حالٍ معينة، نتيجة خبرته السابقة في الحياة، ونتيجة قدرته العقلية على التحليل. فعندها يتخلى الفرد عن الإنكار والخيال والإسقاط وقلب الضد، ويستخدم آليات دفاعية أكثر تعقيداً، أو نضجاً، تتماشى مع تطور إدراكه.
ولكن هل حقاً نتخلى عن الإنكار والإسقاط وقلب الضد، عندما نصبح راشدين؟!
تجيب الاقتباسات السابقة بالنفي. صحيح إن الآليات الدفاعية تتطور مع تقدم الفرد الذي يستخدمها بالعمر، ولكن تقدم العمر مرهون بتقدم الوعي، وليس بالعمر الزمني للفرد. فالمجيب في الاقتباس الأول يسقط قلقله من خسارة فرديته على بقعة جغرافية بكاملها، وحتى على العالم، في خوفه وتصديه من هذه «الإبادة». أما المجيب الثاني، الأكثر نضجاً، يستعمل الإعلاء في التصدي لهذا القلق، باتجاهه إلى الاستعلاء عن مصدر قلقه، وليس إسقاطه. وفي الحالتين، مصدر القلق ليس الشيوعية، بل يتم انعكاسه في مصدر بعيد عن مصدره الحقيقي. وفي الحالتين، يتجسد مدى تأثير النظام الدعائي الثقافي، في أي بلد كان على بناء وعي الفرد واستخدامه لهذا الوعي.
التأثير الثقافي
على وعينا وآلياتنا الدفاعية
على الصفحة الشخصية في الفايسبوك، يقوم معدو البرنامج بحيث من يستخدمونه، قادرون على التعبير عمّا يجري في خواطرهم، بعبارات، مثل: «ما هو الشيء الذي تريد قوله ليسمعه آلاف الأشخاص/العالم»، «ما الذي تفكر به»، «ما الذي تريد التعبير عنه»، وغيرها. فيوهم أصحاب مواقع التواصل الاجتماعي، مستخدمي هذه المواقع، أن بإمكانهم إيصال صوتهم إلى العالم جميعه، حتى يصبح الصوت عند البعض قضية يومية، تعبر عن مدى قيمة وجودهم في العالم. هذه العبارات تتشابه في المضمون، مع العبارات التي تستخدم من قبل الراشدين بعلاقتهم مع الأطفال. «تستطيع إيصال صوتك إلى العالم» تشبه «أنت قوي مثل والدك». ويكون الإنكار والإسقاط وقلب الضد، من الآليات الدفاعية المستخدمة عند الراشدين مستخدمي هذه المواقع، بهذه الطريقة، الذين يعتبرون أن صوتهم قد وصل عبر هذه المواقع إلى من يجب أن يصل إليه. فالقلق الذي نتج عن غياب قيمة الفرد في المجتمع، يعكسه إنكار لغياب هذه القيمة، عبر إسقاط صفة إعطاء القيمة لمواقع التواصل الاجتماعي، وقلب الضد في التمثل بمصدر يخفف من هذا القلق والخوف من فقدان هذه القيمة.
الإنكار والإسقاط
وقلب الضد في الحياة اليومية
تجد الدفاعات سبيلاً لها في الحياة اليومية، وفي العلاقات اليومية، التي تدفع الأطفال والراشدين إلى الإنكار والإسقاط وقلب الضد في علاقاتهم. تماماً مثلما انعكست الدعاية الثقافية التي كانت سائدة في الولايات المتحدة، أثناء الحرب الباردة_ ولا زالت إلى حد ما_ في الآليات الدفاعية في المجتمع، محاولة التستر عن مصدر القلق الحقيقي. فمثلاً: في علاقتنا مع مواقف الآخرين، غالباً ما يكون الموقف، إما معنا أو ضدنا. هذه الفبركة السياسية التي تلعبها معظم قوى السلطة السياسية في تصنيف المواقف السياسية على كونها ابيضاً أو أسوداً، تقود الأفراد وهم راشدون إلى الإسقاط في علاقاتهم مع بعضهم. وتأتي هذه التصنيفات من إسقاطات جاهزة تحمي الفرد من القلق الذي ينشأ من الفراغ الاجتماعي، الذي أنشأته العلاقات الاجتماعية، التي فرّغت الحاضنة الاجتماعية من مضمونها الجماعي، وحولتها إلى مضمون فردي مفكك. فالإسقاط في هذه الحالة على الشخص في الموقف السياسي المخالف لموقفنا، يخفف من القلق والخوف من خسارتنا للحاضنة الاجتماعية، التي اكتسبناها من خلال تقييدنا بهذا الموقف. مثلما عندما يقوم الأفراد بالتمثل بشخص آخر إلى حد التطرف في ممارستهم اليومية مع الآخرين. يستعمل هؤلاء الأشخاص قلب الضد في تبني شخصية القائد الزعيم، والبطل الذي يطمحون، بأن يكونوه، أو يكونوا في مكانه، لكي يتم تخفيف القلق الناشئ عند هؤلاء الأفراد، بعدم قدرتهم على أن يكونوا مثل هذا القائد، أو الزعيم.
مرضية الآليات الدفاعية
في الاجمال، تقسم الآليات الدفاعية بحسب نفسانيين مختلفين، إلى ثلاثة أقسام: الآليات الناضجة، وغير الناضجة، والعصابية. لا إنكار في كون الآليات الدفاعية تأتي نتيجة للتخفيف عن القلق، الذي سببته الخبرات التي خضناها سابقاً في الحياة، لهذا هي تتطور حسب نضج الفرد الذي يستخدمها، وهي غير واعية. والتي ستتقلص من غير ناضجة وعصابية إلى ناضجة، في حال تغيرت منظومة العلاقات الاجتماعية، التي تحكم نشوء هذه الدفاعات. وهذا لا يترتب عليه فقط تغيراً في العلاقات الاجتماعية اليومية، والتربية والتعليم، بل أيضاً في مرافق الحياة جميعها، التي تتحكم بهذه العلاقات، وتحويلها إلى آليات سليمة واقعية. أي بتغير النظام السياسي القائم، إلى نظام يسمح للأفراد منذ الصغر، بتقليل الكبت الذي يؤدي للقلق. وبمنحهم أدواراً تمدهم بالقيمة الإنسانية لا إلغاءها، أو تشويهها كما اليوم غالباً.