الرأسمالية تتصوَّف؟لحظة، إنها مالتوسية؟! الأكيد إنه التّهريج في الأزمة
تجاه الأزمة العميقة للإمبريالية، تعتبر الماركسية: أن الفاشية، هي حالة عامة ملازمة نابعة من الأزمة نفسها، الفاقدة للمخارج العملية.
و إلى جانب الفاشية، تحمل الأزمة انهيار النموذج الليبرالي الجديد أي:المفاهيم الفردية والارتقاء الاجتماعي ربطاً بالثروة والشهرة، والدور ضمن نظام الاستغلال وتسليع الإنسان وتغريبه، والتنافس «القاتل» مع الآخرين.
انهيار هذا النموذج الوهمي، الذي حكم سياق الثقافة المعممة في العقود الماضية، في كون الأزمة السياسية نفسها، في كونها شاملة ومغلقة لآفاق الحل حسب نموذج الحروب_ الفاشية بسبب توازن القوى الدولي، والصعود والدور المتماسك للصين وروسيا تحديداً في إطفاء الحروب وكبح قوى الحرب.
تناقض اقتصادي_ سياسي كأرضية لتناقض فكري_ ثقافي
انكباح خيار الحل الفاشي، يشكل الأرضية لتناقض الفكر والثقافة السائدة، ما بين ثقافة فاشية، وبين استعادة لتيارات فكرية (المثالية أو تيارات مادية تُحرَّف لخدمة تثبيت الواقع ولجم التاريخ عبثاً) تخطتها الحياة والظروف، التي يفترض الفكر الرأسمالي اليوم أنه يمكن باستعادتها أن تلعب دور سد فراغه الثقافي الفكري في أزمته الشاملة، هي انعكاس فوقي لاضطرار الرأسمالية مرغمة على الوجود في أزمة غير قابلة للحل.
التناقض، هوليوود، والأكاديميا
يمكن مثلاً أن نرى الفيلم الأميركي
«The Thinning» (التنحيف أو الترقيق) في 2016، نموذجاً واضحاً عن الخيار الفاشي، الذي يحكي عن ضرورة تخفيض عدد سكان الأرض بسبب انحسار الموارد الطبيعية للكوكب، ويقدم نموذجاً لهذا الطرح في أمريكا اعتمد في ولاية تكساس، وتدور حوله قصة الفيلم، حيث يتم
«إقصاء» (إعدام) الطلاب غير الناجحين في امتحان دراسي، يحمل اسم الفيلم نفسه (The Thinning). حيث يعرض حاكم ولاية تكساس «مهندس» الاختبار، في حملته للرئاسة الأمريكية، جوهر الامتحان كضامن ومعبر لصفاء المجتمع الأمريكي وبقاء النخبة على قيد الحياة. الفيلم يشكل صورة واضحة عن عنصرية عرقية في اصطفاء الأفراد (الطلاب) الأذكياء عن الباقين (الأقل ذكاء) في استعادة لمدرسة الداروينية الاجتماعية (العنصرية) التي تربط نسبة الذكاء والقدرات الذهنية بتطور العرق نفسه، إسقاطاً لمبادئ المدرسة التطورية الطبيعية على المستوى الاجتماعي، في نكران أي دور للنظام الاجتماعي على الفروقات الفردية، لا استناداً إلى الفرص والظروف الاجتماعية التي ينشأ فيها الفرد، بل تنسبه إلى التطور الجيني، الذي حسب المفهوم المادي للتاريخ، لم يعد المحدِد في القدرات الدماغية العليا بشكله المباشر. تيار آخر يعبر عنه الفيلم هو: المالتوسية في ربط سبب الأزمات الاجتماعية_ البيئية بازدياد عدد السكان، والذي يعلن مباشرة في مقدمة الفيلم وطوال سياقه وعلى لسان مشروع «مرشح الرئاسة» نفسه.
إذاً الفيلم يعلن، في دمج لتياري المالتوسية بالداروينية الاجتماعية: أنه يجب تخفيف عدد السكان استناداً إلى معيار «الأرقى ذهنياً».
إذا كانت هوليوود قادرة على التعبير عن الفاشية دون أن تتحمل المؤسسات الرسمية السائدة وزر هذا التعبير المباشر، فإن المؤسسات الأكاديمية لا تملك هذه «الرفاهية» ولو كانت تحمل في طيات نظرياتها هذا الطرح العنصري المالتوسي، أشكالاً أكثر تبطيناً. وبالتالي، فهي تقوم بنبش المخزون الفكري لكي تجد ما يعينه على إعادة إنتاج خطاب وممارسة فكرية تسد فراغ أزمة انهيار النموذج النيوليبرالي المرادف للرأسمالية كنظام اقتصادي_ اجتماعي.
الأمثلة على هذه الاستعادة المشوهة الرجعية كثيرة، ولكن منها ما يصبح تهريجاً واضحاً على لسان «باحثين وصحفيين» غربيين، فعلى منصة TED (مُقدِّم على مسرح، وجمهور وشاشات عرض) التي ذُكرت في مقال سابق، التي تقدم نظرات باحثين وأكاديميين وصحفيين وغيرهم، نجد مثلاً تضخماً في تناول مفهوم السعادة وما تعنيه، بعد فشل خيارات «الليبرالية» على ضوء الأزمة. وللمفارقة، يظهر في بداية الفيديو أن هذه «الأحاديث المحفِزَة برعاية شركة فورد»!إذا فورد للسيارات ترعى الفكر والثقافة وتحديداً الفلسفة والعلوم الاجتماعية؟! إنها المهزلة الرأسمالية.
في فيديو منشور، منذ شهور عدة، للكاتبة إميلي أصفهاني «هناك في الحياة ما هو أكثر من السعادة»، تقول أصفهاني: أنها ونتيجة لبحثها الفلسفي والنفسي-العصبي ولتجربتها الصوفية ضمن عائلتها ومحيطها في مدينة»مونتريال»، توصلت إلى أن «البحث عن المعنى» هو أرقى من «السعادة» التي ترتبط بقضايا يومية ملموسة كالشهرة أو الثروة، وتقول: إن «البحث عن السعادة في الثقافة المهووسة بالبحث عن السعادة يمكن أن تجلب عدم السعادة، والفراغ لا زال يحكم حياة الملايين وفي أمريكا تحديداً، أما وجود المعنى فهو يعطي عمقاً للحياة أبعد من اللحظة».
والمعنى، حسب أصفهاني: مبني على أربعة عناصر، الأول: أن يكون للفرد انتماءً، ويعطي الفرد قيمة ودوراً بالنسبة للمحيطين به ولنفسه، النابع من الحب، ويحمل مسؤولية يضطلع بها الفرد تجاه محيطه. الثاني: الهدف في الحياة، ذا الطابع الوجودي المحفز للحياة. العنصر الثالث: أن يمارس الترانسندنتالية (الفكر في حالة التّعالي والخروج من الذات لرؤية التجربة من خارج) كالفن والصلاة والكتابة... أما العنصر الأخير: أن يقدر الفرد على سرد تجربته لنفسه ليستخلص منها المعنى «الإيجابي» مهما كانت مؤلمة وليصبح أقوى ويحول الألم إلى إنتاج، وهذا قد يتطلب سنوات حسب أصفهاني. وتخلص إلى أن التجربة الصوفية عبر أفعال الحب الصغيرة واللطف حتى في مواجهة الكراهية، هي تجاوز للأنانية وتعطي الفرد هدفاً لحياته ويجب أن نبني هذه العناصر الأربعة المذكورة في المؤسسات الاجتماعية.
إلى جانب تسطيح الصوفية إلى فعل تأمّل وجلسات سمر حول الشاي وسرد القصص و»فعل الخير»، فهذا التأكيد على غياب المعنى في المجتمع الرأسمالي الذي سلّع كل شيء، لم يفعل إلا أن زاد الفراغ فراغاً، بالرغم من تشديده على مفاهيم، كالهدف والحب والدور والقيمة، ولكن دون اعتبار للنظام الذي فرغها من معناها الإنساني.
بالنقيض يكون النقيض
على القاعدة الاقتصادية الاجتماعية، قامت حلقة ثقافة الليبرالية بما يشبه دورة رأس المال (نقد_ سلعة_ نقد)، وأي نقيض ثقافي اجتماعي يتمحور حول الإنسان والمعنى، ينبغي قيامه على أرضية اقتصادية نقيضة أيضاً، تتمحور حول الإنسان كقيمة محورية فيه، لا تكديس الثروة.
وحسب ماركس، إما تغيير جذري أو رجعية على المكشوف. ففي مرحلة الأزمة العميقة والشاملة للرأسمالية، فأي تغييب لقضية التغيير من قبل أية فكرة يحول الفكرة إلى طرح رجعي يساهم في تثبيت القائم، بينما للثقافة دور دك أعمدته، وبناء المجتمع الشامخ للعدالة والسلام الحقيقيين. إنها أبعد من رجعية، إنها مهزلة الفكر المأزوم، فما لم تذكره «أصفهاني» أن الحلّاج في تصوفه، وقبل أن يصلب على طريق «حبه الكلّي»، نادى بحالة من العدالة الاجتماعية، فكانت «الكراهية»/الظلم أقوى من حبه (عملاً بنصيحة أصفهاني)، فحتى الحب يحتاج قوة الجماهير المقهورة لكي يوجد، ومجتمعاً جديداً.