مهمة الأدب
الجدل المستمر بين ما يمكن أن يقدمه ويشكله الأدب في وعي وتقدم البشر، غير منفصل عن موقع كتّاب الأدب السياسي والفكري. وهذا يبدو واضحاً في روايات العديد من الكتّاب وفي الروايات التي أثرت في ملايين من البشر خاصة الروايات السوفياتية. وإلى أين يتجه الكاتب في روايته ومن يخاطب؟
يشكل البرتو مورافيا_ كاتب ماركسي إيطالي_ حالة جميلة في الرواية. تتميز رواياته بأن لدى الكاتب القدرة على توصيف علاقات البشر بنفسهم وبمجتمعهم، بطريقة عميقة قلما توجد في روايات أخرى، وتركيزه على المعأني المبطنة (في الرواية) لمعنى قيمة الفرد. كما أن رواياته تحمل الشعور بالقلق والاكتفاء، تجسيده للواقع يجعل من يقرأ يفكر بواقعه فيحمل له القلق، والاكتفاء من حيث أن الرواية كاملة لا يمكن اختراق نصها. ركز مورافيا في رواياته على العلاقات بين الأفراد وعلى الصراع النفسي، الاغتراب، والصراع السياسي في إيطاليا بعد الفاشية. لهذا نجد في رواياته صراعاً في الشخصيات بين واقعهم وقيمتهم، ولهذا يركز مورافيا على الطبقة الوسطى في إيطاليا في رواياته.
ينتقل في روايةٍ عذاب الحبٍ التي تحتوي على قصص صغيرة عن الحب، من تجسيد علاقة الإنسان بالحب من زوايا مختلفة. ينطلق من التعريف المثالي للحب، الذي يشكل الحياة المثالية بالنسبة لأي فرد، ليغوص في تفاصيل حياة أبطال الرواية اليومية، لنكتشف أن الرواية لن تنتهي بنهاية سعيدة، بل أبطالها سيخوضون صراعاً إما لتحديد قيمتهم أم لا.
يجسد مورافيا من خلال هذه الرواية المغزى من الحياة عند أبطال روايته من خلال علاقاتهم. تدور إحدى القصص حول ناقد أدبي يريد تجسيد حبه لزوجته عبر كتابة قصة حبهما، تتغير نظرة الكاتب عن الرواية التي كتبها بعد علمه بأن زوجته تخونه. هنا يجسد مورافيا الأنانية، التصنع، والخيانة في علاقاتنا، حيث تغلب هذه الصفات على حبنا حين تصبح مصلحتنا الأنانية تقتضي أن نغفل إساءتنا في علاقاتنا، فيصبح التصنع إحدى العلاقات التي نجبر على التعامل بها لكي نرضي مصلحتنا. وهنا أيضاً: يجسد من أين يكتسب الإنسان قيمته ومغزاه من الحياة، من العلاقات التي يبنيها من مجتمعه، كيف يتغير المغزى من الحياة عندما يتغير المحرك (الدور) الذي يعطينا هذا المغزى. ففي الحالات الثلاث في الرواية يفتش أبطال الرواية، في مرحلة ما في حياتهم، عن مغزى حياتهم. يتشكل هذا المغزى في الرواية من خلال علاقة حب، إلى حين اصطدام أبطال الرواية أنهم صوروا الحياة بطريقة مثالية، بينما هي كأنت علاقة غير سليمة.
كتب مورافيا عذاب الحب في ثلاثينيات القرن الماضي، الرواية التي يمكن أن تجسد اليوم في معناها وصراعها الفردي في أبطالها أفراد اليوم. بربطه لوجودنا وقيمتنا بأية علاقات نبني، وأي موقع ودور اجتماعي نريد لأنفسنا. كما أنه ربطها بمدى قدرة الأفراد على التخلي أو تغيير علاقاتنا، إذا ما اصطدم الفرد بواقعه وتخلى عن تفكيره المثالي. إذا توصل الفرد إلى أن تفكيره المثالي في علاقاته مع محيطه، هو الذي يدفعه إلى التصرف بأنانية وتصنع، وعلاقة مصلحة، ونظر إلى علاقاته بنظرة واقعية.
تقول إحدى الشخصيات في الرواية: أنه «على كل كاتب، قبل أن يبدأ كتابة قصة حول فئة معينة من الناس، أن يكون على علم بصفاتهم كافة، ليستطيع تحقيق موضوعية قيّمة شاملة، وإلا كأن الإخفاق نصيبه»، فترد الشخصية الأخرى: «هذا يحتاج إلى وقت طويل». فمورافيا استطاع تجسيد العلاقات بين الأفراد كون هدفه ليس الكتابة فقط، بل أيضاً سياسي، فهو جسد فساد الأخلاق في الطبقة الوسطى الإيطالية بالتحديد، وجسد الاغتراب الذي أصاب الأفراد بابتعادهم عن قيمتهم في الحياة، ومعنى الحياة بالنسبة لهم. ولهذا تشعرنا بالقلق وتأخذنا إلى بعدها الصراعي والواقعي في حياتنا. وهذا ما هو مطلوب من الأدب في أي وقت لا أن يصف الحياة والعلاقات الإنسانية، بل أن يشكل ناقداً لها، ومحفزاً لمن ينظر إليها، أن تكون جزءاً من الحياة الاجتماعية السياسية، وأن تكون على العلن مؤيدة لاكتساب الإنسان واقعه وقيمته في الحياة.