أين تقع عتبة التاريخ؟
تتناقض المفاهيم في علاقة الفرد (الأفراد والقوى الاجتماعية) بالتاريخ، وكيفية سرده، والتعامل معه، كما الظواهر الاجتماعية جميعها، هذا لكون التاريخ يمتلك بمضمونه الصراعي الماضي والحاضر والمستقبل في ميادين المجتمع كافة. ولكون علاقتنا بالتاريخ تتحدد من خلال كيفية تطرقنا إليه، أي: موقع النظر الخاص بمن ينظر، على اعتبار كونه محطات أو مراحل معزولة وإما صيرورة متكاملة. وعند كل حدث سياسي أو اجتماعي تتصارع المثالية والمادية العلمية في التاريخ، كما في المفاهيم كافة التي وجدت مع وجود البشر في المجتمع الطبقي المنقسم.
«هول» سقوط الاتحاد السوفياتي
يتجسد في الواقع الذي نعيشه: الصراع بين المثالية والمادية العلمية في التاريخ، في امثلة عدة.
أولاً: من خلال تطرقنا إلى الأحداث التاريخية التي أثرت في العالم عموماً، وفي المنطقة خصوصاً.
تُتَّهم العديد من الأحزاب اليسارية والشيوعية في العالم، بعدم الخروج من «هول» سقوط الاتحاد السوفييتي، وتسارع العديد من هذه الأحزاب إلى تبرير موقفها بأننا لا نعيش اليوم في عصر الاتحاد السوفييتي. وإن كان في «الاتهام» لبعضٍ من هذه الأحزاب، بعض من الحقيقة، فالمنطلق المثالي هنا: كون التاريخ هو محطة أو مرحلة ثاتبة لا تتغير. هذا المنطلق الذي تستعمله الرأسمالية لتقول: إن الفكر الاشتراكي جامد في تركيبته، بدليل أن حامليه يعيشون في عصر «ما قبل التاريخ». القسم الثاني من هذه المعادلة المثاليّة هم: اليسار الرمادي الذي يصرّ على تعريف النضال كما صوره غوركي في رواية الأم. باستعمال الأدوات نفسها التي استعملها السوفييت (البلاشفة) حينها في القضاء على القيصر والقيام بثورتهم. والذي عند كل محطة سياسية يصر على تذكيرنا أننا لا نعيش في عصر الاتحاد السوفييتي. وكأن سيمفونية «روسيا ليست الاتحاد السوفييتي» لا زالت ذات وقع عند هذا اليسار، فالتاريخ هو ثابت وغير متحرك، بالنسبة له. التاريخ هنا أيضاً لم يتحرك منذ مئة عام، لا زال كما هو، ولا زالنا أيضاً نستطيع استخدام الأدوات نفسها في نضالنا ضد الرأسمالية،حسب تفكيرهم.
هوليوود لورنس العرب
ثانياً: الأفلام الهوليوودية وغيرها، لكن الغلبة هنا للأفلام الهوليوودية التي تتحكم بسوق الأفلام كون منتجيها هم على رأس النظام الرأسمالي
كثيرة هي الأفلام الهوليوودية التي تتحدث عن الغزو الأمريكي للعراق، أو لورنس العرب، أو تلك التي تعطي الشرعية لجيش ومخابرات الولايات المتحدة في التدخل في أي بلد أو منطقة تحت تبرير حماية البلد من كارثة إنسانية، اجتماعية، أو دكتاتورية. حركة وثبات التاريخ تظهر بوضوح في هذه الأفلام، التي تبدأ كرد فعل على حدث ما، وليس كترابط بين فعل ورد فعل. ففي التاريخ كما في علاقة الإنسان المباشرة والبسيطة/المعقدة مع محيطه، ينتج رد الفعل نتيجة للفعل، فما يدفع الطفل إلى أخذ خطواته الأولى هي عدد المنبهات التي تحيط به، وتدفعه إما إلى استكشافها أو التمثل بها. مثلما لا يشكل التاريخ محطات مستقلة بحد ذاتها، بل هي ترابط بين ما يحدث مع ما سبق، والذي سيؤدي إلى ما يمكن أن يحدث. معظم هذه الأفلام، حتى تلك التي تتحدث عن حدث اجتماعي ما، تحاول ربط التاريخ من منظور صراع الخير والشر في العالم. وتستعمل هذا الصراع لكي تؤكد أن التاريخ لم يتحرك بل لطالما كان صراعاً في العالم بينهما، من خارج التاريخ. الصراع الذي يمكن أن يكون فردياً في صراع الفرد مع نفسه الشريرة نحو الخير (هنا أيضاً يحتل فرويد البطولة)، أو صراع بين محور الخير، وهو الرأسمالية، ومحور الشر وهم اعداؤها، وأن التاريخ ليس حركة أو صيرورة يتصارع فيها المستغِلون والمستغَلون. وهنا الملامح المثالية لدى بعض اليسار في النظر إلى مفكريه أو ثواره كأبطال لن يتكرروا، مثلما تجسد أفلام الأبطال الخارقين.
ثالثا»: الموقف من
انهيار القطب الواحد
منذ صعود الصين التي تشكل أحد أبرز الاقتصادات في العالم يسأل العديد: «هل الصين دولة اشتراكية حقاً؟»، و«هل الصين وروسيا تختلفان عن الغرب الإمبريالي؟»، يترافق هذان السؤالان مع أن «روسيا ليست الاتحاد السوفييتي، والصين منتشرة في معظم العالم اليوم». لسنا بحاجة إلى العديد من المعطيات لكي نرد على تلك الأسئلة. فإذا كنا نرى التاريخ بحركته، سنرى حكماً أن موقع وموقف روسيا والصين اليوم نابع من الوضع التاريخي الحالي، والوضع التاريخي الذي أدى إليه أيضاً. ونعلم أن التاريخ ليس ثابتاً وأنه لا يمكننا تقييم موقف الصين أو روسيا اليوم على أساس منطق تثبيت التاريخ، بل على أساس حركته. وهذا يعني أننا يجب أن نرى الدور الذي تلعبه الصين والروسيا اليوم من خلال حركة التاريخ الحالية، أيضاً في وحدة هذا الدور مع الأزمة الإمبريالية ككل ماضياً وحاضراً.
يقول ماركس: أن التاريخ يعيد نفسه في أول مرة كمأساة وفي الثانية كمهزلة. فعند بعض اليسار، حاملاً تقييم ثبات وشروط الأمس إلى اليوم، التاريخ أعاد نفسه كمأساة في مرحلة التراجع، عندما أصبح هذا اليسار خارج الحركة السياسية الداخلية، أو الخارجية في البلدان التي ينتمي إليها من دون الانتباه لخط التراجع. وفي الثانية: عندما أصبح مضمون «عقله» كمهزلة أمام انفتاح أفق التقدم من جديد،, في تحريفه ثبات التاريخ وعدم حركته وإصراره على تكرار التجربة «الثورية» ذاتها كما حصلت قبل «المأساة»، أو في ارتماء بعض هذا اليسار في المعسكر الليبرالي، إن كان يعلم أم لا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 837