السيدة النحيلة التي يندف شعرها ثلجاً
البحث المستفيض الذي يقدمه لنا الراحل الكبير غسان كنفاني عن رحلته إلى الشرق والتي استمرت أربعين يوماً في سنة 1965 هو من ناحية الكتابة: أجمل ما في المجلد الخامس من الأعمال الكاملة والذي صدر في طبعته الأولى عام 2015 وهو من ناحية أخرى أميز ما يقرأ المرء عن أدب الرحلات.
كان حلم غسان في هذه الرحلة التاريخية أن يلتقي (ماو تسي تونغ) في حديث طويل. إلا أنه في لحظة ما نُصح بالتخلي عن إصراره هذا. كتب غسان مقاله البحثي تحت عنوان (ثم أشرقت آسيا) وكان من خلاله يستثير الهمم كي تكون حياة الإنسان على هذا الكوكب أكثر عدلاً، وأوفر سلاماً، وأقرب رشداً. ولكن الإنسان هو الإنسان، يهتدي ويضل، ويسعد ويشقى، ويصيب ويخطئ، وهناك شرّان لا يختلف العقلاء على موضع الشر فيهما، مع ذلك فقد طبعا تاريخ البشرية ولازماه، الحرب، واستعباد الإنسان للإنسان. ينتقل البشر من البداوة إلى الحضارة ومن الفلاحة إلى الصناعة ومع ذلك تبقى الحروب ويستمر استغلال الإنسان للإنسان. يقول في موضع من بحثه:
روت لي السيدة انديرا غاندي وهي وراء طاولتها المقوسة في دلهي، قصة قرية في مقاطعة كيرلا الهندية، دفعها البؤس قبل ربع قرن إلى تشكيل شبه نظام تعاوني حقق لها_ من دون تنظيم مفروض أو تدخل من أحد_ رفاهاً منقطع النظير. مازال ماثلاً إلى الآن. وكانت غاندي_ السيدة النحيلة التي يمطر شعرها ثلجاً وتغور عيناها في بحيرات سوداء من الحزن الغامض- تريد أن تقول: إن الأخلاق التعاونية لدى الفلاح في كل مكان على هذه الأرض هي القيمة الأساسية، وإن الأمر لا يحتاج إلى تدخل كثير و بارز من السلطة، بل إلى تشجيع وإلى إتاحة الفرصة لذلك الوعي الفطري كي ينمو بصورته المنظمة!
هل تظن أيها السيد كنفاني أن الفقراء والأميين لا يستطيعون ولا يعرفون ممارسة حق التصويت الديمقراطي والتعاون فيما بينهم، كي يجدوا حلولاً لمشاكل حياتهم المريرة؟ هكذا سألتني السيدة غاندي ابنة الراحل نهرو ووزيرة الإعلام والإذاعة في حكومة السيد شاستري، ثم مضت تقول: إن مثل هذا الاعتقاد خطأ، لأن التجربة أوضحت للكثيرين من المثقفين الهنود الذين مارسوا حملات دعاية انتخابية في أعماق الريف، أن الفلاح الأمي والمدقع يعرف تماماً ماذا يريد، وأنه كان هناك يطرح الأسئلة المهمة حقاً، ويهتم بجواب مقنع. قلتُ للسيدة غاندي: يا سيدتي إن كل إنسان غالباً يعرف كيف يسأل الأسئلة التي تعنيه مباشرة، ويعرف إلى إي حد قد يكون الجواب مقنعاً أو تافهاً. لا أحد يعلّم الفقير شيئاً عن الفقر، نعم هذا هو الحال.
أربعون يوماً مزدحمة بالبرامج والمعامل والمزارع والسياسيين والناس والدكاكين والمسارح: من هونغ كونغ المشغولة بالضوء، والواقفة على رؤوس أصابعها أمام الساحل الصيني، إلى كانتون التي تبدو كمدينة مقصوفة بقنابل حرب طاحنة، والمحاطة بمعامل حفر العاج حيث يجلس بوذا في جزيرة صغيرة من عالم اسمه التجارة، إلى بكين المستلقية أمام الساحات، تحت وجوه ملونة صارمة عملاقة للرفيقين ستالين وماو تسي تونغ، إلى شنغهاي المزدحمة والتي تزعق على ضفتيها سفن الترحال الثقيلة، إلى بانكوك حيث ترتفع الأضرحة الملونة بالمرايا المتوهجة، إلى شوارع الازدحام والغبار في كلكتا ومزارع الفولاذ في ضواحيها ومستعمرات العمال التي تصنع المستقبل، إلى بومباي التي تلتف كعقد مزدوج حول خليجي البحر العربي، وشوارعها الأنيقة حيث يُبحر الرجل المشتاق على أشرعة الساري الملون إلى عوالم من الهمس والضجيج، إلى دلهي حيث يجلس الآجر الأحمر أمام بلاط مهراجا غامض، إلى تاج محل حيث شيّد الإمبراطور المفجوع بموت زوجته ضريحاً مذهلاً.
ثم يتساءل غسان: تُرى هل يحتاج المرء إلى أربعين يوماً من الترحال، وعشرين ألف ميل، وثمانين ساعة في الطائرات والقطارات، كي يكتشف الحياة التي تدب في ربوع آسيا؟ مع أن نابليون بونابرت تمنى ذات يوم أن تظل آسيا نائمة، ولكن القدر الذي كان يخشاه أكثر من أي شيء آخر قد جاء يسعى...ثم أشرقت آسيا، وها هو أحد أفراد أهل الصين السيد وانغ ين شانغ يقول: سأوجز لك شعوري بجملة واحدة، بعد نصف قرن على الأكثر سترى العالم يأكل بعودي قصب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 834