تسليع واعادة انتاج الثقافة
تتابع المؤسسات الثقافية الرسمية نشاطاتها المتعددة الفنية والموسيقية، وقد لفتت هذه النشاطات الأنظار إليها، خاصة مع ما تم تلمسه عبرها من استقطاب شعبي وجماهيري نسبي لها، على الرغم من كل ما يعانيه الانتاج الثقافي من صعوبات، وما طرأ عليه من تراجع وترهل، خلال العقود الماضية، وفي سني الحرب والأزمة على وجه الخصوص.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن التراجع والترهل والصعوبات التي تعترض العمل والانتاج الثقافي لم يكن إلا نتاجاً طبيعياً لمجمل مجريات الواقع الاقتصادي الاجتماعي، وللسياسات الليبرالية المعمول بها والمعممة رسمياً على كافة مناحي الحياة ومستوياتها، وذلك كون الانتاج الثقافي ما هو إلا انعكاس وصورة لهذا الواقع، كما وأنه أحد مفرزاته.
تخلي رسمي
وبالحديث عن تعميم النموذج الليبرالي وانعكاس ذلك على المستوى الثقافي لا بد من لفت الانتباه إلى ما جرى ويجري على مستوى تسليع الثقافة بكافة حقولها، ولم لا طالما أن الثقافة هي انتاج، وكل انتاج هو سلعة، وكل سلعة قابلة للعرض والطلب في سوق البضائع المتحكم به رأسمالياً!.
الملموس العملي بهذا الصدد يمكن اسقاطه على دور وزارة الثقافة برعايتها للإنتاج الثقافي، أو غيرها من الجهات العامة الأخرى ذات المهام المشتركة بهذا الشأن، وكيف تم التخلي عن هذا الدور عبر النموذج الليبرالي المعتمد كسياسة حكومية رسمية.
تاركين الأمر لرعاية المؤسسات الخاصة من الناحية العملية والترويجية والتسويقية، بما في ذلك من حصاد مالي استثماري لمصلحة هذه المؤسسات، وليس برعاية الوزارة.
والسؤال الذي يتبادر للأذهان هل وزارة الثقافة، وغيرها من الجهات العامة المعنية بالشأن الثقافي، عاجزة عن رعاية النشاطات لتتركها نهباً واستغلالاً لصالح المؤسسات والشركات الخاصة؟.
والسؤال الأهم هل تقوم مثل هذه الشركات والمؤسسات برعاية وتمويل أي انتاج إن لم تكن واثقة من ريعيتها الاستثمارية فيه، سواء حاضراً أو مستقبلاً؟.
لنصل إلى نتيجة أن كل ما يجري بالحقل الثقافي من ترك الباب مفتوحاً أمام كافة الجهات، المحلية والاقليمية والدولية، أفراداً ومنظمات ودول، للانخراط بمجالات الرعاية والتمويل لأي نشاط في أي حقل من الحقول الثقافية ما هو إلا بوابة مشرعة غايتها تكريس مفهوم تسليع الثقافة، وجعل الانتاج الثقافي سلعة تتقاذفها آليات التحكم بالعرض والطلب في سوق وبازار السلع، وبما يحقق مصالح وغايات هذه الجهات، والتي من كل بد سيحصد تبعاتها السوريين أنفسهم، كنتيجة ومآل، سواء على مستوى المكونات الثقافية نفسها باعتبارها تراكم انتاج تاريخي، يعاد انتاجه من جديد عبر هذه البوابات، أو على بقية المكونات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأخرى.
الثقافة حقول متفاعلة
فعندما ترد كلمة ثقافة على الأسماع لا بد وأن يتبادر إلى الذهن مباشرة مجموعة من المفردات المرتبطة كمفهوم بـ »الثقافة« كعنوان عام وعريض، وكمكون أو حقل خاص بها، مثل (الأدب- الفن- الموسيقا- الرسم- المسرح- العادات- الدين- القيم- الأخلاق- الابداع- الجمال- ..) وغيرها الكثير من المفردات الأخرى المرتبطة بهذا المفهوم العام بأذهاننا.
مع ادراكنا التام بأن كل من هذه المفردات، الحقول، هي عالم عميق ومعقد بذاته، تتفاعل فيما بينها مشكلة بالنتيجة ما يمكن تسميته بالثقافة الفردية أو المجتمعية، كمنظومة متكاملة نشأت وتطورت عبر التراكم التاريخي التدريجي، كما وتعمل مستمرة عبره، عن طريق عملية اعادة الانتاج المستمرة فيه، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، وفيها من الخصائص ما يمكن تمييزه على هذه المستويات كذلك الأمر، سواء على المستوى الفردي، أو على المستوى المجتمعي.
المزيد من التخصص والتمويل
وكارثة الكوارث في الموضوع هو ما جرى ويجري تكريسه على مستوى تعميم مفهوم التسليع الرأسمالي حيث طال الثقافة بعمقها، وبكل مكوناتها ومفرداتها وحقولها، مع التحكم بأدوات اعادة انتاجها أيضاً.
اعادة انتاج تهدف التدمير
أما أخطر ما في الأمر فهي النتائج الملموسة لهذا التسليع وإعادة الانتاج والتحكم، باعتبار أن الثقافة المجتمعية تترجم عموماً عبر سلوكيات حياتية يومية، الكثير منها يظهر وكأنه نابع من العفوية المطلقة، أو الغرائزية الفطرية، ولكنها بالعمق ليست إلا نتاج لعملية اعاد الانتاج نفسها عبر عقود من العمل والتمويل عبر الأدوات والوسائل التي أصبحت أكثر فاعلية من قبل بهذا المجال، وتحديداً ما يتعلق بالتقانات ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة، حيث يبدو الكون وكأنه يسعى نحو التوحد، لكنه بالمقابل مقدم على المزيد من التفتيت، الفردي والمجتمعي، والوطني وما دون الوطني، مع كل التداعيات المرافقة لذلك من اغتراب وفراغ روحي ونفسي، يبدأ من حدود رفض الواقع ليصل لحدود التمرد عليه، لكن ليس وفقاً لأنماط التغير الطبيعي ونتيجة للظروف الموضوعية، بل وفقاً لمشيئة إرادوية متحكم بها من قبل رأس المال، دافعاً بهذا التمرد والرفض لحدوده القصوى من التطرف، وهو ما تشهده، وتدفع ضريبته البشرية حالياً كنتيجة للنموذج العولمي الليبرالي المنفلت.
أخيراً لا بد لنا من العودة لما يعنينا بهذا الشأن، وهو أن كل تخلي للدولة عن أي دور من ادوارها لصالح الليبرالية والليبراليين والنموذج العولمي الرأسمالي، هو تخلي عن المواطن وحقوقه ومواطنيته وهويته، والدولة والوطن بنهاية المطاف، باعتبار أن مفاهيم مثل الدولة والوطن مستهدفين عولمياً كذلك الأمر، والشواهد كثيرة على ذلك.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 822