المدينة حيث تعود باكراً إلى فراشها

إنها السابعة مساء، هنا دمشق وبالضبط ساحة عرنوس حيث تتقاطع الطرق المؤدية إلى كل جهات المدينة العاصمة، وهنا يبتاع الناس حاجياتهم بمتعة الفرجة، وهنا كان السوق مكاناً قد يحاك فيه موعد زواج قريب، أو لقاء سري في إحدى المحطات السرية المعتمة.

إنها السابعة مساء، وهنا قبل قليل من الزمن كان سكان المدينة ومرتادوها يتوزعون على الكراسي المعدنية فمنهم عاشق خائب، وأسرة تلاعب أطفالها، وعجائز ينفردن بحديث الأمس، ويسخرن من جيل يجري غير مكترث بتوقف زمنهن.
هنا.. والساعة الآن بعد السابعة بقليل،  ومنذ زمن قليل الدمشقيات كن يمارسن التسوق بالجملة، والمنقبات كن يبحثن عن صدرية تليق بنهد لا يعرف كنهه سواهن، ويمرحن تحت الخمار بضحكات مغمسة بالهمس، وأما الصغيرات فيهرعن إلى الحمراء حيث يشدهن الشباب الجديد إلى رخصة (الجينز)، وموديلات الإثارة، وقطع القماش التي تقطع الروح.
هنا دمشق والسابعة تتمطى بملل بارد، وشارع الحمراء خاوٍ من أنثاه، والمارة مسرعون من أمام الشوارع الفرعية التي تمرر الهواء القاسي، وصاحب عربة (الكستنا) يتدفأ على رائحة احتراق صندوقها الخشبي، والباعة يبتهلون في سرهم عسى زبون مارق يمد يده إلى جيبه ليشتري ورقة يانصيب، أو يملأ جهازه الخليوي ببعض ما يسمح له بالثرثرة، أو السؤال عن صديق.
سينما الشام معتمة، واختفت مكتبة ميسلون من مكانها إلى الأبد، ونصف أضواء الفندق الكبير مطفأة، وأما الطريق إلى ساحة المحافظة فيوحي بليلة صامتة شامتة.
إلى قلب دمشق.. بعض الجوعى ينتظرون خروج فطائرهم من بيت النار بالقرب من جسر فكتوريا، و(سينما سيتي) دخلت سبات الإصلاحات والترميمات، وطرَقًات الأقدام فقط تعطي أملاً في الحياة للشارع المجاور للمتحف الحربي سابقاً، والتكية تنام على أمل إنهاء وزارة السياحة لبنائها المحترق، والحلبوني شوارع ملتفة تحركها القطط الباحثة عن طعامها في حاويات المكتبات.
السابعة والثلث في البرامكة سيارات النقل تتكوم قرب الإشارة الضوئية بانتظار راكب كان قبل زمن قليل يهرول خلفها، وإضاءة خافتة تبعث شعوراً بالموت القادم من عبوة ناسفة أو انفجار يبعثر الأجساد القليلة مشاريع شهادة.
السابعة والنصف في الطريق إلى المزة، هنا حيث دمشق تقود دخلائها إلى بيوت خارج السور، ولكن الطريق المدني مظلم  سوى بعض المطاعم و(الكافتريات) تنقل مباريات الدوري الأوروبي، وسهارى يدخنون الأرجيلة والأمل.
هي دمشق المدينة التي لا تنام، ولا تعترف بالشحوب، ولا تمالئ أحداً بنشوتها الأبدية، ولا تحسب حساب العابرين، فمنذ صارت الأرض شجرة القرد الأول لم يغادر الشام بشرها، وتتالت عليها الأنوار والطرقات والحروب والمدائن.
قبل الثامنة مساء ودعتني الشام إلى أقرب ما يقلني خارجها، وربتت على كتفي الأيمن بهواء غريب وقالت: إلى هنا يكفي... وألتفت خلفي ثمة مدينة تغفو قليلاً قليلاً لترتاح من آهات البشر، وتعدّ سريرها لحلم أو كابوس.      

معلومات إضافية

العدد رقم:
541
آخر تعديل على الإثنين, 19 كانون1/ديسمبر 2016 03:28