سمير حنّا سمير حنّا

«وهلأ لوين؟»: الروح الأنثوية الحارسة

على طريق المقبرة تتمايل أجسادٌ أنهكتها الدموع وأثقلتها الهموم، كلٌّ يندب ابناً.. زوجاً.. أخاً.. حبيباً..

نساءٌ من ضيعة لبنانية صغيرة، طمس اللون الأسود في ثيابهن حكاية لونين يقطنان بيوت تلك القرية الساحرة المحاطة بالألغام المحاطة بأصوات الرصاص. القرية التي سلمت بأعجوبة من الحقد المشتعل في المدينة البعيدة.. تصل النساء إلى القبور.. تنفصل المجموعة إلى اثنتين.. وتبحث كل منهن عن قبر عزيزها الغائب.. تمسح إحداهن قبر ولدها وتزيل عنه الاعشاب تحنو بيديها على الحجر الأصم كأنها تتلمس وجه طفلها بحق، تُقرأ الآيات وتُتلى الصلوات على أرواح الغائبين، وتقبل كل منهن صورة فقيدها بحرقة وتمسح عن الصورة الغبار، تتذكر بألم سبب الغياب تصلي إلى ربها خشية وقوع المحظور من جديد..
هكذا أرادت نادين لبكي أن تبدأ قصة تلك الضيعة الصغيرة.. وفي تلك المقبرة بالذات أرادت لتلك القصة أن تنتهي، أو بالأحرى، ألا تنتهي، في حيرة وحدت أهالي الضيعة وغسلت أحقادهم..
استطاعت لبكي ببراعة إيقاظ تلك الجنة الغافية في عقولنا بتلك اللهجة المحببة والحوار البسيط، كما استطاعت في العديد من المشاهد أن أحس بنسمات الجبل القريب على وجهي.. وتهادى إلى سمعي أصوات أولاد الجيران يلتفون بتوق حول كل زائر جديد. تذكرت راعينا. تذكرت الفرح في عيون جدتي، وسهرات المرح، تذكرت الإعجاب الأول والتوق الأول والنظرة الأولى..
يسرد فيلم «وهلأ لوين؟» بحرص وتفصيل حكاية ضيعتنا جميعاً، فكانت قصة الحب الممنوع بين «آمال» المسيحية و«ربيع» المسلم التي قد سمعناها وشهدناها وحفظناها عن ظهر قلب.. لكن بأسلوب خلاب طوى في حناياه قصة عربية أصيلة عن الحقد والتطرف بين الإخوة..
كان الحزن بطل الفيلم الأول والأخير، الحزن الذي يدفع نساء الضيعة مسيحيات ومسلمات على ابعاد غيمة الحقد السوداء عن رجال الضيعة. تلك الحكمة التي نألفها في حديث جداتنا وأمهاتنا عن زمن كان فيه الجميع يعيش بتناغم ووئام..
قصص لم نعد نشهدها الآن بين القرى السورية المتجاورة بالجغرافيا والمتباعدة بالقلوب، أولئك الملائكة من نساء الريف البسيط..
نساء ابتكرن بذكاء فورة مصطنعة في إحدى السهرات لمنع الرجال من سماع أخبار الاقتتال الطائفي في المدينة، وتخريب التلفاز في الصباح الباكر كي لا يحدث ذلك من جديد.. كيف يستطع أحد أن ينسى حكمتهن عندما بدأت المناوشات المتصاعدة بين رجال القرية في تخريب الكنائس والجوامع؟؟ كيف ألصقت المسلمة تمثال السيدة العذراء المكسور في فورة عنف؟؟ كيف ساعدت النساء المسيحيات المسلمات منهن في تنظيف جامع القرية المتسخ بعد حركة صبيانية؟؟ كيف حاولت كل منهن ابقاء مشاكل أطفالها سراً حرصاً على صفاء النفوس بين الرجال الذين كثرت اجتماعاتهم السرية لوضع خطط للانتقام من الطرف الآخر؟؟ حتى وصل بهن الأمر إلى تزييف المعجزات لتهدئة القلوب كما فعلت إيفون أو جلب فرقة استعراضية من الأوكرانيات لتبديل شهوة القتل بشهوة الجسد عند أزواجهن لكن دون فائدة..
من يستطيع أن ينسى «تقلا» وابنها «نسيم» .. ذلك الشاب الذي يجلب باستخدام دراجة صديقه المؤن من خارج القرية.. والذي عاد مقتولاً ذات ليلة برصاص حاقد في اقتتال بين مسلمين ومسيحيين.. تلك الأم الملاك.. أتعلمون ما فعلت؟.. غسلت ابنها بدمعها، ودفتنه في بئر في بستانها، وأخفت خبر مقتله عن الجميع كي لا تثير حميّة أقرانه للانتقام فتزيد الطين بلة. تلك الأم المقهورة التي دخلت كنيسة القرية وصرخت مختنقة بدموعها بوجه تمثال مريم العذراء شاكية متذمرة ما آل إليه حالها.. كافرة حاسدة العذراء على وجودها بجانب ابنها..
ينتهي الفيلم بخطة محكمة بالتنسيق مع رجال الدين في القرية، فيجتمع الكل على عشاء خفيف ممزوج بالحشيش وتتصاعد تدريجياً أصوات الضحكات ورنين الكأس وينسى الجميع أحقادهم وخطط انتقامهم.. وتتسل النساء لإخفاء كافة الأسلحة في القرية ودفنها في مكان سري لايعلم به أحد.. وفي النهار التالي يستيقظ جميع الرجال على مفاجأة كبيرة.. حيث بدا أن النساء المسيحيات قد اعتنقن الإسلام وارتدين الحجاب، والمسلمات قد خلعن الحجاب ودعون أبناءهن وأزواجهن إلى القداس في الكنيسة.. في مشهد سريالي صادم ومثير للاعجاب زاد من غرابته سفر رجلي الدين مع الفرقة الاستعراضية الأوكرانية من القرية هرباً من همومها..
في النهاية..لابد من دفن «نسيم» عندها تلتبس الأمور على رجال القرية في طريقهم إلى المقبرة، وعند مفترق الطرق بين القبور المسلمة والمسيحية، يلتفتون إلى النساء سائلين: «وهلأ..لوين؟!».. وصوت آمال يأتي من بعيد: «حكايتي وحكيتها.. وبعيونكن خبيتها.. عن ضيعة وعيت عالسلام.. والدنيا من حولها بالحرب عم تنام.. عن ضيعة رجالها ناموا ع وجهن طب.. ووعيوا وما عرفوا كيف ما عاد عندن حرب.. حكايتي نسوتها بقيوا تيابن سود.. وسلاحن صلاة وورود.. حلمن بلا بواريد.. تيكبروا الولاد.. حكم عليهن الزمان.. يلاقوا طريق جديد».

قبل أن أنسى..أود أن أقول شيئاً..
عندما أتيحت لي الفرصة المتأخرة لرؤية الفيلم قاطعتني في منتصف الفيلم تقريباً مكالمة هاتفية من أحد أصدقائي يطمئن عن الحال وأخبار الأهل ..وشاءت المصادفة ان هذا الصديق الذي لم أسمع منه خبراً منذ شهور يقطن في إحدى قرى حمص..وعند سؤالي عن الأحوال هناك..رد بسرعة: «بيستاهلو..بدن هيك من الأول..الضيعة اللي جنبنا من الأول ما ناويه عالخير..ع كل حال..نحنا جاهزين وقريباً رح نحلها..»..
كنت أسمع كلامه هذا وعيناي مسمرتان إلى الشاشة أمامي أرى الدماء كالدموع من عيني العذراء تنهمر..

معلومات إضافية

العدد رقم:
541
آخر تعديل على الإثنين, 19 كانون1/ديسمبر 2016 03:28