كمي الملحم كمي الملحم

«قاسيون» تلتقي الباحث د. نصر حامد أبو زيد:

«.. يجب أن نقول لأولئك الناس الذين يحللون ويحرمون من هذا المنطلق: اخرسوا أيها السادة، أنتم آلة تنتج فتاوى وفتاوى، فالاستنساخ يحتاج لفتوى، والاختراع لفتوى، والقصيدة لفتوى! وكأنهم يعتقدون أن الفدائي الذي يحزم نفسه بعبوة ناسفة، إنسان لا يحب الحياة، ولا يريدها. الفلسطيني يموت لأنه يريد الحياة، والأم الفلسطينية تزغرد عند استشهاد طفلها، لكنها تبكي عندما تغلق الباب على نفسها..»

- هناك نزوع اجتماعي لطلب الحماية، فلا توجد حماية من قبل الدولة، ولا من قبل الثقافة مما يجعل النقد في مجتمعاتنا العربية جريمة
- مناهضة العولمة مرتبطة ارتباطاً أساسياً بقضية الحريات إلا أن أنظمتنا أنظمة (خايبة)…
- قد نكون مزيفين للحقائق إذا اعتبرنا أن العولمة غزو ثقافي، أو تهديد للهوية الثقافية دون أن ندرك أنها تهديد للوجود نفسه..
- الماركسية منهج وليس دوغما، إلا أنك تجد في الماركسية العربية جنة ونار اً ويوتوبيا؟!

د. نصر حامد أبو زيد

من خلف طاولته، يدير صراعه المستمر مع أمراء المؤمنين رافضاً تطبيق النص المطلق على الواقع المتحرك.
نصر حامد أبو زيد من القلائل الذين كتبوا من اليمين إلى اليسار ناقلين معهم الفكر الديني من اليمين إلى اليسار.. ومن القلائل أيضاً، الذين ساهموا في تجديد الربط الواعي بين النص الديني والتحول الحضاري.

قد تزعج نصر أبو زيد بأسئلتك، لكنه لن يزعجك بأجوبته..
- التأثيم (الأخلاقي) والتحريم (الديني) والتجريم (القانوني) أين نصر أبو زيد من هذه الثلاثية؟

سؤالك له شقان:
أين أنا منها كإحدى ضحاياها، وأين أنا منها كمواطن يعيش في ظل الوضع العربي الراهن.
هذه الظاهرة أوسع من اسم نصر حامد أبو زيد، فهي ليست ظاهرة سلطة فحسب، بل هي ظاهرة مجتمع أيضاً، وكثيراً ما يشارك الاثنان في إنتاجها، أو ينتجها أحدهما ليتلقاها الآخر.
فيما يتعلق بقضيتي الشخصية، اعتقد أن القضية ولدت وأثيرت في مؤسسات الدولة قبل أن يصوغها المجتمع تأثيماً وتحريماً بدليل أن هناك فئات كثيرة من المجتمع لم تتقبل ما حصل، وكتبي تقرأ الآن بشكل جيد وباهتمام أكبر من قبل الأوساط الشابة، رغم كل ما أثير من ضجيج أثناء الأزمة.
أما على المستوى العام، فأنا أرى أن الظاهرة ستتزايد، بفعل عوامل كثيرة، أهمها وأخطرها هو تحول الدين في إطار الصراع والتحديات إلى منطقة آمنة بالنسبة للمواطن العربي يلجأ إليها ويختبئ داخلها.
هناك نزوع اجتماعي لطلب الحماية، فلا توجد حماية من قبل الدولة، ولا من قبل الثقافة مما يجعل النقد في مجتمعاتنا العربية جريمة.

- هناك علاقة مركبة بين النظام الحاكم والسلطة الرسمية الدينية (الأزهر) من جهة، وبينه بين أحزاب وقوى المعارضة الدينية من جهة أخرى، أين خطوط الإلتقاء والتباعد؟

المعارضة الدينية، شأنها شأن السياسية، معارضة تتصارع مع السلطة القائمة على الحكم، وهدفها هو إسقاط هذا الحكم، إلا إنها تزعم أن الحكم لله، وأنها ستتولاه نيابة عن الله.
والنزاع هنا حول الشرعية، أما السلطة الرسمية الدينية فهي جزء من سلطة الحكومة بشكل عام، وباستثناء بعض الاراء الفردية المخالفة التي يتعامل معها النظام بأدوات قانونية رثة.
إذاً نحن هنا نستطيع التحدث عن سلطتين، وليس ثلاث سلطات. أما رجال الأزهر، فهم موظفون عند الحكومة وشيخ الأزهر نفسه يقول: (أنا موظف عند الحكومة المصرية).

- إذاً نستطيع القول، أن النظام الحاكم هو من كفر أبو زيد؟

أنا أقدر قياساً لردود الأفعال والتحركات، أن النظام قد كان طرفاً رئيسياً في إنتاج الأزمة، رغم ادعائه الوقوف موقف الحياد. فالقضية قسمت المجتمع، وعملت استقطاباً حاداً، بحيث أنها شغلت المثقفين عن كثير من القضايا السياسية التي كانت مطروحة على طاولة التداول آنذاك، وهذا بحد ذاته مريح للسلطة فالصراع والعراك يدور بين خصومها الذين يمارسون الضغط عليها في الأحوال العادية.

- ألا يذكرك ذلك بمسرح العرائس؟

أنا أختلف معك في هذا، فالقوى والأحزاب السياسية المصرية تمتلك استقلالها، ومشروعاتها، فالسلطة لا تحرك المعارضة بشكل ميكانيكي، وعندما يدخل الإسلاميون والعلمانيون في صراع ما، فإنهم يدخلون كأطراف فاعلة، تؤثر في موقف المجتمع، كما تؤثر في موقف السلطة. فالنظام المصري فقد قوته ومركزيته التي عاشها أيام عبد الناصر، فلم يعد يستطيع التأثير على القضاء مثلاً، بشكل مباشر، لأن تدخله في القضاء يحرك جميع القوى السياسية المعارضة، ويوحدها.

- معظم القوى السياسية العربية تطالب بعودة الجماهير إلى الشارع، إلى أي شارع سيعودون؟!

أنا ارى أن العودة تتمثل بوعي الجماهير بسلطاتهم، عودة الوعي السياسي، ومعايشة الحياة الديمقراطية من جديد، فالتيارات العربية غير ممثلة لشعوبها، لأنها مفروضة على هذه الشعوب، والحوار لن يكون ممكناً بين السلطات والجماهير، إلا إذا كانت هذه السلطات شرعية، وهذا ما لم يحدث في الوطن العربي.

- كثيراً ما استعان النظام العالمي الجديد بالأخضر (الإسلاموي) على الأحمر ( الشيوعي) هل انتقل العداء من الأحمر إلى الأخضر؟!

أنا أرى أن النظام العالمي الجديد، ليس معادياً للإسلاميين، فهو نظام يرتكن إلى قاعدة السوق، الذي يمثل الإله الأوحد بالنسبة له، وأية معارضة لهذا الإله سوف تقمع، سواء كانت ماركسية أو إسلامية فعندما نرى محور الشر الذي يحدده «الأخ» بوش، نستطيع قراءة الأمور بشكل أوضح، لنرى أن أمريكا لا تؤسلم الإرهاب انتقاماً من الإسلام نفسه، فقد استطاعت أن تجمع بين العراق وإيران الخمينية، وكوريا الشمالية دون أن يكون هناك جامع بينهم، سوى المصالح الأمريكية، مسوغة حربها تارة باسم الديمقراطية، وتارة باسم حقوق الإنسان، فإذا ما حاربنا العولمة الأمريكية باسم الإسلام، فإننا سنحارب بأدوات زائفة.

- هل هناك تصور لاستراتيجية مناهضة للعولمة عند أبوزيد؟!

مناهضة العولمة مرتبطة ارتباطاً أساسياً بقضية الحريات إلا أن أنظمتنا أنظمة (خايبة)…
أنا أعتقد أن الشق الأخطر في العولمة هو الشق الاقتصادي وليس الثقافي فهناك سعي أمريكي للهيمنة الاقتصادية عن طريق استثمار جميع الثقافات الأخرى وابتلاعها، ونحن أمام معادلات جديدة مبنية على الاستغلال والمصالح.
وقد نكون مزيفين للحقائق إذا اعتبرنا أن العولمة غزو ثقافي، أو تهديد للهوية الثقافية دون أن ندرك أنها تهديد للوجود نفسه.
وبكل اسف أقول لك، إن العالم العربي، قد تقبل الوضع الاقتصادي باعتباره قدراً، وذلك بفعل تلاقي المصالح بين رؤوس الأموال العربية غير المنتجة والتي تعتمد على العملات وبين النظام العالمي الجديدمما يجعل بعض ممثلي الأنظمة الحاكمة، يزيفون الوقائع فيتحدثون عن الغزو الثقافي والتهديد الهويتي، دون أن يحرضوا على مقاومة الواقع الاقتصادي.

- الفصل بين الاقتصادي والثقافي يبدو صعباً، فهناك من يقول أن مشروع السد العالي في مصر، هو مشروع ثقافي مثلاً..

أجل، فالسد العالي خلق كوادر عمالية وهندسية، قام على أكتافها القطاع العام في مصر، فقد كان السد مشروعاً ثقافياً وإيديولوجياً وتنموياً وعندماتم تفكيك القطاع العام في مصر، استفاد القطاع الخاص من الكوادر الفنية والتكنوقراطية وأنشأ مشروعاته بفضل هذه الكوادر أيضاً.

- في أطروحتك حول حوار الحضارات، ركزت على مفهوم فائض القيمة الحضاري، إلا أننا لمسنا معارضة شديدة ممن حولك…

أنا لم أزعم أن فائض القيمة الحضاري مفهوم، إنه استعارة لمصطلح اقتصادي، استخدمته كعبارة مجازية، وقد فكرت فيه فيما بعد، وأعدت النظر بعض الشيء، فقد استعرت هذا المصطلح من مفهوم فائض القيمة بالاقتصاد، وهو الفائض الذي يراكمه رأس المال من جهد العامل وعرقه فيزيد من تسلط الطبقة الرأسمالية. أما بالنسبة للحضارة أو الثقافة، فأنا أرى أنهما يتجاوزان أفق الواقع لأنهما بنيتان رمزيتان.

ويبقى للثقافة إنتاجها الإنساني الذي يتجاوز حدود الواقع العيني وهذا ما أسميه أنا (فائض القيمة الحضاري). إذا بحثنا في كيفية تتالي الحضارات التاريخية، سنجد أن العلاقة بين هذه الحضارات، هي علاقة اتصال إنساني وهذا العنصر الإنساني في الحضارة هو الذي يستمر، فلسفياً أو فكرياً أو ثقافياً، بعد أن تدخل الحضارة مرحلة الانحطاط،لأن الإنجاز الإنساني يتواصل بعد ذلك مع حضارة أخرى في مكان آخر.
الحضارة الغربية مثلاً، ليست حضارة مستقلة عن الإنجاز الحضاري للحضارات السابقة، وهي مبنية على استثمار الفائض الحضاري المنجز من جميع الحضارات التي سبقتها.
ومن الممكن تاريخياً تتبع قضية حقوق الإنسان مثلاً من ثورة سبارتاكوس (ثورة العبيد) لتربط ذلك بالصراع ضد التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، وكذلك بالمقاومة الفلسطينية للعنصرية الصهيونية الممارسة على الفلسطينيين. فالقيمة الإنسانية لثورة سبارتاكوس ظلت مستمرة ولو تغير شكلها الحضاري. وفائض القيمة الحضاري ليست نظرية أطرحها، إذ لم أكتب فيها وأبلورها بعد.

- نتحدث عن القضية الفلسطينية، فيما يسمي «علماؤنا» العمليات الفدائية عمليات انتحارية، ماذا لو أتممنا الحديث؟

أنا لا أعرف ماذا يجري بالضبط، ربما لا يرون الواقع، ربما يريدون الواقع دون أن يدركوا المأساة!!
الفتاوى شيء يحمل التبسيط في بعض الأحيان لأن المفتي يتعامل مع السؤال الموجه له، ولا يتعامل مع الواقعة بتعقيداتها المتشابكة، وأنا أرى أن الفتاوى سواء حللت أم حرمت، فهي دائماً في نفس السياق.
فالقضية ليست قضية حلال وحرام، ولا نستطيع أن ننظر إلى قضية معقدة كقضية الشعب الفلسطيني ثم نلخصها في هذا الشكل الساذج، هل هذا ابتذال!!
هل تمارس إسرائيل إرهابها استناداً لقاعدة الحلال والحرام؟!أنا أعتبر هذا الطرح توظيفاً لقيم أخلاقية مجردة في ظل صراع لا يحتمل التجريد من لا أخلاقيته، فهو صراع سياسي واجتماعي وصراع وجود وليس صراع حلال وحرام.
ذات مرة قلت لأحد أصدقائي: هناك بعض الناس الذين هاجموني وزوجتي، أتمنى قتلهم، فعندما يقول أحد عن زوجتي أنها زانية، ولا يحاكم قانوناً وينشر ذلك في الصحف المصرية، ماذا سيبقى أمامي كإنسان؟! هل أنا إرهابي؟ هل أنا غير عقلاني؟
أنا عقلاني لكني أتعامل مع ظاهرة غير عقلانية، لذلك لا استطيع أن أقول للفلسطيني الذي يتعامل مع قوة غاشمة تفقد العقلانية، «كن عاقلا» أو أقول له «أنت إرهابي»!!
يجب أن نقول لأولئك الناس الذين يحللون ويحرمون من هذا المنطلق: اخرسوا أيها السادة، أنتم آلة تنتج فتاوى وفتاوى، فالاستنساخ يحتاج لفتوى، والاختراع لفتوى، والقصيدة لفتوى! وكأنهم يعتقدون أن الفدائي الذي يحزم نفسه بعبوة ناسفة، إنسان لا يحب الحياة، ولا يريدها. الفلسطيني يموت لأنه يريد الحياة، والأم الفلسطينية تزغرد عند استشهاد طفلها، لكنها تبكي عندما تغلق الباب على نفسها.
اريد أن أقول لهؤلاء المحرِّمين: كونوا أنتم إنسانيين ولا تحكموا الأرض بفتاويكم، واسكتوا فهناك ما يسمى بجلالة الصمت.

- هناك من يحسب أبو زيد على الإسلاميين، وهناك من يحسبه على الماركسيين، هل حاول ابو زيد مركسة الإسلام؟

إذا فهمت الإسلام كظاهرة تاريخية اجتماعية إنسانية، بعيداً عن المقدس،ونظرنا إلى الماركسية كأيديولوجية وفلسفة ونظرية في تفسير التاريخ، فلن نبحث كثيراً عن اللافتات.
فالماركسية، ارتبطت بالعلوم الإنسانية جميعاً بما فيها علوم اللغويات، و«مركسة الإسلام» هي محاولة لفهم الإسلام تاريخياً،وتفسيره تفسيراً إنسانياً، وهناك ستجد كثيراً من التلاقي بين الإثنين، إلا أنني سأقلب المعادلة، وأقول لك إن الماركسية العربية هي أسلمة لماركس بالمعنى الأيديولوجي. فماركس لم يزعم أبداً أنه امتلك الحقيقة المطلقة، والماركسية منهج وليس دوغما، إلا أنك تجد في الماركسية العربية جنة ونار ويوتوبيا؟!

وإذا ما حللناها في بنيتها نجد الفكر الديني متجذراً فيها، تماماً كما في القومية العربية التي يتجذر فيها التعصب الشوفيني.

معلومات إضافية

العدد رقم:
173