محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

عن الخواء... وعلب السردين!!

«هكذا يفرِّغ أولئك الشباب كبتهم في الخواء، ويعودن لبيوتهم كأولاد مطيعين، بعد أن عاشوا حياة ألف ثوري وفنان وفيلسوف... في علبة سردين مغلقة ليس بإمكانها أن تزعج استقرار أية مؤسسة سلطوية».

تلك هي الكلمات التي اختتم بها المقال الصغير الذي نشرته «قاسيون» تحت عنوان «أشياء لا تحدث إلا في ساروجة»، وبغض النظر عما أثاره هذا المقال من ردود فعل إيجابية أو سلبية، فإننا ندرك أن مشكلة التلقي لا تنفصل عن مشكلة الإنتاج الثقافي في مجتمعنا، مما سيدفعنا في هذا الحيز إلى توسيع الأفكار التي عبَّرت عنها تلك الكلمات بشكل مكثَّف ومركَّز.
 
سوسيولوجيا الخواء!
لعل الرطانة الفارغة والمنعدمة السياق هي من أهم أمراض الثقافة والمثقفين في عهود الخواء، وهذا ما دفعنا إلى استهلال هذه الفقرة بهذا العنوان المليء بالرطانة، مستحضرين مقولة الفنان والمفكر الإسباني الشهير فرانسيسكو غويا: «إن سُبات العقل يولِّد المسوخ»، سُبات العقل هنا لا يمكن نسبته إلى خللٍ فيزيولوجي ما في عمل الدماغ، بل هو نتيجة  لسُبات اجتماعي شامل يُعطل فاعلية العقل ويلغي إبداعه. هكذا رسم غويا مسوخه الشهيرة في ظل الجمود الاجتماعي العام  الذي فرضته السلطة السياسية والاجتماعية-الدينية على المجتمع الأسباني آواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ليعبِّر عن مدى استلاب الإنسان في ظل هكذا شرط تاريخي.
وبالنسبة لشرطنا الاجتماعي والثقافي الحالي تكتسب مقولات غويا ومسوخه أهميةً كبرى، بحيث يبدو فناناً ومفكراً معاصراً أكثر من كل فنانينا ومفكرينا الحاليين، فالخواء الثقافي والسُبات العقلي الذي نعانيه لا ينبع من فساد عابر أصاب وسطنا الثقافي، بل ينبع من حالة الركود السياسي- الاجتماعي الشامل الذي أصاب بنيتنا المجتمعية في الصميم، فعندما يُحرم مجتمعٌ كامل من قدرته على الفعل والتعبير، وعندما تصبح العلاقة بين السلطة والخاضعين لها علاقة مباشرة قائمة على القوة دون توسط «مجتمع مدني» حقيقي (بالمعنى الماركسي الذي أعطاه غرامشي لهذا المفهوم)، يغدو من الطبيعي أن  لا نجد حولنا إلا المسوخ... وهكذا نصادف على الدوام مسوخاً لأحزاب سياسية ومنظمات شعبية ومدنية، ومشاريع ثقافية (مع تقديرنا لكل المحاولات الرامية للخروج من عنق الزجاجة). ونشهد لجوء الأغلبية الساحقة من الأفراد إلى البنى السابقة لنشوء الدولة والمجتمع الحديث لعلها تؤمن لهم الغطاء والوساطة المفقودة، هنا تصبح ثنائية الدولة- البنية الاجتماعية التقليدية (طائفة، عشيرة، عائلة) هي الأساس المكون لمعادلة السلطة. وهذا ما سيقودنا للحديث عن علب السردين...

الحياة في علبة سردين!!
تفترض الحياة في أي مجتمع حديث وجود القنوات والسبل اللازمة للقاء والحوار الاجتماعي، بحيث تصبح هذه القنوات والسبل التعبير المؤسساتي عن الفعالية الاجتماعية، ولكن معادلة السلطة التي ذكرناها آنفاً لم تترك لمن ما يزالون مصرين على التشبث بمظاهر الحياة الحديثة إلا مساحات ضيقة معلَّبة، ومنفصلة عن الواقع الاجتماعي، ولهذا فقد انتشرت ظاهرة «علب السردين» في المدن الكبرى كافة، حيث نجد «الوسط الثقافي» يعيش في كانتونات معزولة، مشغولاً بمناكفاته الصغيرة، ومتسائلاً بدهشة عن سبب غياب المشروع لدى أحزابه ومؤسساته، وفي تجمعاته ...ومقاهيه!! 
والحياة في علبة سردين حياةٌ كئيبة حقاً على الرغم من الجاذبية الظاهرية لكل تلك التجمعات «الثقافية»، ولذلك فمن الطبيعي أن نجد كل أشكال الفكر العبثي والعدمي مزدهرة بين كل أولئك الأفراد المعلبين (حتى «الثوريين» منهم) كأننا في أوروبا الخمسينات والستينات، مع فارق جوهري هو أن تلك النزعات في الفكر الغربي كانت مترافقة مع حراك اجتماعي هائل، وقد ساهمت بقسط وافر في إخصاب ذلك الحراك، بل  وتثويره في الكثير من الأحيان.
وتغدو هذه المظاهر أكثر إيلاماً بين الأجيال الشابة، فإذا كان معظم المثقفين «المخضرمين» قد أدرك منذ زمن بعيد إفلاسه وعدم قدرته على العطاء الحقيقي، فإن المثقفين الشباب يصعب عليهم استيعاب وضعهم والتأقلم معه، وهكذا  نجدهم يعيشون «خوائيتهم» الخاصة، ويحلمون بوطن بديل يخرجهم من تلك الحالة!!
وهذا ما دفعنا في المقال السابق إلى الحديث عن مقاهي ساروجة ذات الطابع الشبابي، وليس عن مقاهٍ «ثقافية» و«عريقة» كمقهى الروضة مثلاً.
 
 أشياء لا تحدث إلا في ساروجة!!
في الواقع تلك الأشياء تحصل في كل «علب السردين» المشابهة لساروجة، ولكنها لا تحدث بالرتم والأسلوب نفسه، فذلك الحي الأثري الجميل بات يمثل صورةً شديدة التكثيف عن توصيفنا وقراءتنا للوضع القائم.
 بإمكانك هناك (أكثر من أي مكان آخر)  أن تجد  عشرات الفتيان والفتيات يقضون جلَّ أيامهم وهم يجلسون جلستهم المتراخية التي لا تتغير أبداً... تمضي بهم الساعات وهم يتنقَّلون بين مختلف المشاريع والأحاديث التي لا تجمع بينها إلا تيمة الخواء، ويحلمون باليوم الذي سيحظون به بـ«الفيزا» التي ستخرجهم من البلاد.
هل يحقُّ لنا إذاً أن نطالبهم بالتغير، كما فهم البعض من المقال السابق؟ بالتأكيد لا، وما كتبناه كان توصيفاً لحالة، ولا يحوي دعوةً من أي نوع، لأن رهان التغيير لا يمكن أن ينطلق من علبة سردين!!    
فيما مضى كتب سعد الله ونوس مسرحيةً قصيرةً عن «المقهى الزجاجي» (وكان مقهى «الهافانا» هو النموذج الذي استوحى منه العمل) للتعبير عن حالة من الجمود والخواء شبيهة بما تحدثنا عنه، وفي ختام المسرحية يأتي الأطفال ليحطموا جدران ذلك المقهى. ومن المؤلم حقاً أن أحداً حتى الآن لم يستطع التعبير عن خوائنا الحالي بمثل ذلك العمق والحرارة التي كتب بها ونوس، رغم أن الكثير من الشباب الذين يعيشون هذا الظرف المشوه لا تنقصهم الموهبة، فهل يمكننا أن نحلم باليوم الذي سيحطمون فيه جدران مقهانا الزجاجي؟!!

معلومات إضافية

العدد رقم:
411