محمد المطرود محمد المطرود

شربل روحانا في الشام: وبآب نزل الشتي...

ألف الشام ليست آه طويلة، وسجن القلعة الذي كان هو سجن محايث الآن، إذ تناغمت فكرة مذيعة «new Tv» بجملتها الخطأ مع الحقيقة لابد هي حاصلة، حيث استبدلت حرف الجر (من) بـ (إلى) لتستقيم مغلوطتها على الشكل التالي: «من قلعة دمشق التي تحولت إلى سجن..»، تم تدرَّأ كبد الحقيقة أمامها لتصيبه في مقتل: «من قلعة دمشق التي تحولت من سجن إلى واحة للفن والإبداع»، والصحيح هو أنه بالإمكان الإبقاء على (إلى) أو المحافظة على (من)، فالتيمة هنا يتناهبها معنيان، أولهما يخص السجن بابتلاعه لأرواح كثيرة في جغرافيا ضيقة السماء والأرض، بحيث لا يشغل المرء حيزه المفترض من الفراغ، وقسمات البيولوجيا، ذلك يشبه رواية «الساعة الخامسة والعشرون» وكيف تغص الحافلة التي تسع لـ 20 معتقلاً بـ 70.

لكن وشربل روحانا بيننا في قلعة دمشق، وهواء دمشق الطيب مساءً يلف الحضور بخيط الغبطة والدهشة، في دمشق الأقدم، الأجمل، العدد الكبير تماهى في الجمالي لتضيق الأجساد بأرواح سكنتها، وتفلت في ما أوسعته القلعة من مكان، متحررةً لنرى الضيف وفرقته بما ارتدوه من سواد كطيور بيضاء يسكنها نفس الملائكة، فتنساب الأصوات إلينا كمياه دافئة، وتدغدغنا الموسيقا، موسيقا شربل روحانا، وروح شربل روحانا، كأن قططاً برية بأسنان لبنية كنا نربيها في صدورنا تلك اللحظات تعض قلوبنا ولا تجرحها إلا بالقدر الذي يكتشف الواحد منا وحشيته، أو بالقدر الذي يتمثل أمامه آدميته بأبهى صورتها بألقها.. بأبهتها.. بأحزانها.. بانتصاراتها، وبما تلزم لأن نعيد النظر في نفوسنا ونتعلم كيف يكون الإنسان كبيراً، ويستحق التصفيق، من غير سلطة توجبه، أو إعلام فاسد يسوقه كأن يكون مسؤولاً، وزيراً، أو قريباً منه.
وإن كانت الموسيقا لغة العالم، ففي البدء كانت الكلمة، إذ نطق الرجل بأسماء مدن سورية كأنها مدنه، لنعرف في تحيته توأمة البلدان، ونعرف كم أن الخارج من بئر النفس قبل تكدر مائه يتمتع بقوة النفاذ، والذي ينتظر كم لديه من الشهية لأن يستحوذ على ما سيصله من الجديد الآتي مع الضيف وريح بيروت و«منارة» الروشة. الموسيقا التي تلوّح للقادم بسفنه الخيال، والذاهب عنا وقد فوّت الضوء قليلاً على أمل العودة ولو متأخراً.
شربل روحانا الواثق، والعارف ما يريد، والمسافر دائماً إلى ما يريد يخيفه جمهور دمشق، فإن احتضنه في 2005 بقديمه ويتذكر أغانيه الكبسولات المضغوطة، على أن هذا لا يشفع له بتمرير جديده دون تلك الرهبة «الامتحان» في حضرة «الذائقة الصعبة» و«الناقدة»، لذلك ستكون شارة مسلسل «فارس بني مروان» الأموي ونزار قباني بدمشقيته القاتلة وتعريبه لياسمين مدخلاً لجمهور دمشق:
يا بنة العم والهوى أموي
كيف أخفي الهوى وكيف أبين
في الأول من آب نزل «الشتي» لدرجة أن الهواء كان مع الضيف والجمهور الأقنوم الثالث ما جعل روحانا ينطق «صحيح بحب الهوا بس مو لهدرجة»، ومهما يكن فالذي قدّمه من طلال حيدر وألحان مارسيل خليفة، أو من كلمات جاد الحاج مغناة بصوت زينة أفيتموس الرقيقة «قلتلي جاي زيارة»، أو أغنية «عنتر»، جعلته يدخل «بلا فيزا». ألا يمكن للأغنية أيضاً أن تكون شعاراً إنسانياً، ليس حزبياً، يُردد بحب، ويُرى فيه خطابٌ عابر للآني والمنفعة؟؟ أم أن «كل الناس تكدب على بعضها»، المصرية اللهجة توزيع عبود السعدي جاءت تعبيراً ملماً بأحوالنا اليوم.. هل من أحد يمتلك الجرأة الكافية ليقول لمن يكذب عليه: أكذب عليك؟!! ربما يفعلها شربل روحانا ولكن بألسنتنا نحن.
شربل روحانا يطمح ببعض الوقت ليرتاح كما فعل غازي مدير فرقته بسفره إلى البحرين، فكتب وغنى له «خذني يا غازي»، لكن هيهات المشغول بالأسئلة ويرى في شخصه محور الكون أن يخلص من هواجسه، وإن نام على ريش النعام، وأغمض عينيه عن شواردها. سيسهر الخلق جراء مقولته وعندها سيقلق... لن ينام... لن ينام.
سيتذكر طويلاً جمهور الشام المؤدب ما سمعه، وسيذكر روحانا بما سمع منه، ليشعر بالمسؤولية، ويخاف أكثر أما دمشق فستظل وفية، مخلصة لفنٍ خالص تزيل غبار الأزمنة عن ذهبها ليلمع، ومصدرة ذائقتها المحبة، حتى نكون أقرب إلى إلهٍ فتح أذهاننا، وبصر قلوبنا بالذي تحب لنتحدث عن المقدس والسبل التي تشكل عروتنا الوثقى به قال كازنتزاكي:
«قلت لشجرة اللوز حدثيني عن الله يا أختاه..
أزهرت شجرة اللوز».
شكراً شربل روحانا...

معلومات إضافية

العدد رقم:
415